من هو الناشط السياسي؟
هي من أقربائي، ربة منزل، تتحول تحولًا عذبًا جميلًا بانسيابية في جميع المتغيرات السياسية. قبل الثورة، كانت، مثل غالبية الشعب المصري، علاقتها بالسياسة تتمثل في الدعاء سِرّاً على حسني مبارك ونظامه، واهتماماتها تتلخص في مشاهدة المسلسلات العربية والتركية وبرامج الطهي. باءت كل محاولاتي معها بالفشل في تغيير وجهة نظرها في الوضع، بسبب خوفها الشديد من بطش أمن الدولة وداخلية حبيب العادلي.
وعندما قامت الثورة، أيَّدَتْها بشدة، وكانت معها قلبًا وقالبًا، ومع الخطاب العاطفي لمبارك، اتصلت بي وقالت لي "نعطي فرصة لمبارك، من أجل الاستقرار"، وبعد موقعة الجمل ومشاهدتها فيديوهات قتل الداخلية شباب الثورة طالبت برحيله. وبعد خلع مبارك، أصبح كل اهتماماتها مشاهدة برامج التوك شو والبرامج الحوارية السياسية.
وعندما ترشحتُ في انتخابات البرلمان عام 2011 هاجمتني بشدة، وقالت لي "لن أنتخبك... فأنت علماني، تنتقد الشيوخ، وسأنتخب الشيخ الجليل عبد المنعم الشحات" (خصمي في الدائرة نفسها). وفي انتخابات الرئاسة أعطت صوتها لمحمد مرسي بالطبع، لأنه سيطبق شرع الله، وكانت ضد أحمد شفيق لأنه من فلول مبارك. وبعد حوالى ستة أشهر من حكم مرسي، اتصلت بي لتحثّني على الثورة عليه وإسقاطه. وبعد الانقلاب العسكري، أصبحت ترقص على أنغام "تسلم الأيادي". نقطة ومن أول السطر.
قبل أشهر، جمعتني بها مصادفة. كانت نظراتها وكلماتها مزيجا من السخرية والكُرْه، ثم سألتني "ماذا تعني كلمة ناشط سياسي"؟ قبل أن أجيبها أشفقت عليها، وأدركت، حينها، بما لا يدع مجالاً للشك أنها وقعت أسيرة للإعلام، وأصبحت بين مطرقة توفيق عكاشة وسندان أحمد موسى. قلت لها: "الناشط السياسي شخص مبادِر، صاحب فكر ورؤية، يمتلك من الشجاعة الكافية في أن يشترك في أي نشاط يرتبط بالسعي إلى تحقيق التغيير على المستوى السياسي، كتنظيم التظاهرات، والوقفات الاحتجاجية، أو توزيع المنشورات وإقامة الندوات، لنشر وجهة نظره للرأي العام، وإبداء اعتراضه بصراحة، ويبذل في سبيل هذه القضية، أو هذه الأنشطة، وقته وجهده، وكثيراً من ماله، من دون مقابل، سوى خدمته لهذه القضية، مما يؤدي به، عادة، إلى الاصطدام مع النظام، وتكون النتيجة الحتمية الملاحقة الأمنية ضده".
وضربت لها مثلاً "لو في يوم من الأيام، ولأي سبب، دخل ابنك قسم شرطة، وتم تعذيبه هناك كما تقرئين يومياً على صفحات الجرائد. الناشط السياسي الذي تسخرين منه هو الوحيد الذي سيقف بجانب ابنك، ويدافع عنه، وينشر قضيته في وسائل الإعلام، ويعرّض نفسه للخطر، وأحياناً كثيرة للاعتقال، أو تشويه السمعة، من أجل أن يصل صوت ابنك إلى الناس".
لم تتخلَّ عن سخريتها، وسألتني "طالما الناشط السياسي، كما تقول، يدافع عن الحق، وصاحب رؤية، ومنطق، لماذا دائمًا نرى في الإعلام وعلى صفحات الجرائد، نشطاء يتاجرون بالثورة، وينصبون أنفسهم متحدثين باسمها، ويكسبون من ورائها؟"
قلت لها "إذا كان الإعلام قد قدم نماذج غير جيدة على السطح، وفي مواجهة الرأي العام، فهذه ليست مشكلة الناشط السياسي، بل مشكلة الإعلام، لأنه هو من يختار أشخاصاً بأعينهم، ويقدمهم للرأي العام، في تعمّد تام لتشويه الثورة والنشطاء، لأن الإعلام مُوَجَّهٌ من النظام. وبالتالي، لا بد أن يُظهر من يسيء للثورة، وكلامي لا ينفي أيضًا أن هناك بعض من تصدروا المشهد ممن يُحسبون على النشطاء السياسيين بحسن نية، أو بسوء نية، أساؤوا للاسم. وهناك قلة قليلة أيضًا تربحوا من اهتمامهم بالعمل السياسي. ولكن، في نهاية المطاف، الناشط السياسي الذي تسخرين منه هو الذي يرتبط ارتباطاً جوهرياً بتقدم المجتمعات وتطورها، وتغيرها من حال إلى حال، ويكفيه شرفاً أنه يمشي عكس التيار، لأنه مؤمن بقضية، ويدافع عنها، ويتحمل تشويهه، واتهامه بالعمالة والخيانة، وأنه يريد هدم الدولة والجيش، كما تفعلين أنت الآن". نقطة أخرى، ومن أول السطر.
قبل فترة ليست بعيدة، اتصلت بي قريبتي. سُرِقَتْ سيّارَتُها، وذهبتْ إلى قسم الشرطة، وصُدِمَتْ من الواقع المهين، والمعاملة السيئة، وعدم الاهتمام الذي يصل إلى حد الازدراء. اتصلت بي لتسألني ماذا تفعل. إنها، الآن، تريد منّي، أنا الناشط السياسي، أن أقف معها، وأن أوصل صوتها إلى الإعلام.
جلستُ بعد اتصالها بي متأملًا حديثها معي، وبعيدًا عن شخصنة الموضوع، واختزاله في هذا الموقف، هل تستحق هذه السيدة، هي وكل من أيَّدَ القتل والظلم، ومن يتهم النشطاء بأنهم خونة وعملاء، التضامن معهم؟ وبدون أن أطرح مزيدًا من الأسئلة، أو التبريرات إنْ صحّ التعبير، هل يستحق هؤلاء التضامن أصلا؟ حسمت أمري من دون أي تردد، علينا أن نقف مع أي مظلوم، مهما كان، حتى لو كان من ألدِّ أعدائنا، لأننا، بمنتهى البساطة، يجب أن نُعامل الناس بأخلاقنا نحن، لا بأخلاقهم هم. وليس من المروءة في شيء أن نفعل ما ننهى الناس عن فعله، لا يجب أن نشمت في إنسانٍ، وقع عليه الظلم، حتى لو كان، في الماضي، من الشامتين فينا. يجب أن ندافع عن الحق، من أجل الحق فقط وليس لشيء آخر، حتى لو وقع هذا الظلم على خصومنا، لا يجب أن نبرر القتل، أو الظلم، طالما جاء على هوانا، وأن نرفضه، إذا لم يأت على هوانا.
وبخلاف ذلك كله، لا يجب أن ننسى أن هؤلاء الناس ما هم إلا ضحايا إعلام مقيت، يبث الهراء والكراهية، ويحرّض على العنف، هم أيضًا ضحايا هؤلاء النشطاء السياسيين الذين لم يتّحدوا ولم يخلقوا منبراً موازيا لمنبر الإعلام المضلل، منبراً يعبر عن أهداف الثورة الحقيقية، ويُعرفهم أن الثورة جاءت لتبني، ولكي تحقق العدل والحق والمساواة وتكافؤ الفرص، منبراً يخاطب العقول وليس القلوب.