15 نوفمبر 2024
من يتاجر بالدين؟
استعان الانقلاب في مصر، منذ بدايته، بظهير ديني لمقاومة الرئيس المنتخب؛ وإظهار عدم التعاون معه، وفتح المجال أمام معارضته معارضة مفتوحة، والتلاقي مع منافسيه وخصومه ضمن جبهة كيد مناكفةٍ واسعة، مع تجنب التلاقي مع أنصاره وتياره، وتصدير خطاب تشكيكي تجاه سياساته وقراراته، ومن ثم ناب هذا الظهير الديني عن القيادات العسكرية والأمنية في عملية تبرير الانقلاب وتمريره باسم الدين، والمدافعة باسم الدين، أيضاً، عن نظام الانقلاب وخطواته، حتى لقد بدا هذا الظهير انقلابياً أكثر من العسكريين والأمنيين، وأقسى منهم أحكاماً، وأمضى منهم سبيلاً فى توظيف مباشر للخطاب، في تبرير الانقلاب وتمريره، والمدافعة عن ممارساته، والهجوم على خصومه.
لا يستدل المنقلب بآية قرآنية، ولا حديث نبوي، في خطاب أو حوار أو كلمة موجهة لجمهور، لكنه يدلي بدلوه في الإسلام على مستويين: الهجوم على رؤية الإسلاميين، والإخوان خصوصاً، للإسلام ودوره في الحياة العامة والسياسية، والتي يعتبرها سبب البلاء الذي حل بمصر، وعلّة الانقلاب ومبرره. والمستوى الآخر رؤيته البديلة التي يراها الأصح والأحق بالتبني من الدولة والمجتمع في مصر. وفي الحالين، ثمة علاقة قوية بين الخطاب الديني لهذا السياسي المستبد بحكم مصر منذ "3 يوليو" وخطاب مشايخ مؤيدين للانقلاب. في هذا الإطار، يعمل عبد الفتاح السيسي على إعادة تشكيل الصورة، ليحذف منها ما يشاء، ويكيّف ما يريد منها كما يشاء، مختاراً المدخل الأيديولوجي ولغة دينية بسيطة، في رسم صورة (صراع على الإسلام).
في ما لم يلتفت إليه كثيرون، يشتمل خطاب السيسي على مادة مهمة عن الدين، الإسلام وحقيقته، وخصائصه، ودوره في المجال العام والسياسي، كما يتصوره السيسي ويعرضه، أو يفرضه. في حديثه عن علاقته بالدين، يؤكد المنقلب أنه المسؤول عنه، وعن قيمه، وذلك بقوله لقناة "سكاي نيوز عربية" في مايو/أيار 2014 إنه لن يسمح بعودة الأمور إلى ما كانت عليه، ولن يسمح بوجود قيادة دينية، وأضاف "أنا مسؤول عن كل حاجة في الدولة، حتى دينها، وأنا مسؤول عن القيم والمبادئ والأخلاق والدين". هكذا في لغة احتكارية، أمم المنقلب الدين لمصلحته، وجعله ملكية خاصة له؛ يحدد معناه ومبناه وصحيحه من الخطأ المتعلق به، أو الإساءة إليه، كما يرى على أساس من رغبته وفهمه، في إطار تأميم الدولة للدين.
واعتمد كل هؤلاء المستبدين على فئة شكلت الظهير الديني للمستبد، يقومون، في كل مرة، بمعزوفة خطيرة، يجعل من هؤلاء في خدمة السلطان، يسوغون له كل ما يقول، وكل ما يرغب، أو يهوى، فجعلوا من هواه ومن رغباته "سنناً شرعية"، من خلال سلطانهم الديني، وما يمثلونه من مؤسسات، هؤلاء الذين يجدون المستبد في حرج، فيتوافدون في خطاباتهم، ليساندوه بصنوف الكلام، وبعضهم يجعل من كلامه فتوى، ويجعلون قول المستبد أو رغباته أو أفعاله محلاً للتوفيق الإلهي؛ فهو الحاكم بأمره، والمفوض من الله، إن قال فهو المُسدد، وإن فعل فهو المجدد، وإن اتهم عالم المسلمين بأسره فإنه الصادق الذي يحمل في كلامه عنوان ثورة دينية، يجب أن تكون على كل من عبّر عنه وأراد.
أمور السياسة وقرارات المستبد وكأنها مُسانَدَة من الرب، ومُؤيَدِة من الشعب؛ إنه ضمن رؤيتهم ليس إلا المنقذ المخلص الذي يرعى المصالح فيؤديها، ويتخذ القرارات فيمضيها، أيا كانت تلك القرارات، وإن تعلقت بمسائل فنية، يجب أن يتحدث فيها أهل الذكر وأهل الاختصاص، فإن انتقد بعض من هؤلاء من أهل الاختصاص قراراته أو أفعاله، مواقفه أو سياساته، خرج علماء السلطان، ليحافظوا على صورته باعتباره المسدد والمخلص، فقالوا يا هؤلاء "إنه هو المُسدد من الله، أتتجرأون على انتقاده ومراجعته، وكأنه عندهم لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون".
قفز أحدهم إلى الواجهة بتصريح خطير، يؤمم الدين لمصلحته، بل يجعله متحدثاً باسم الله، ومسدداً بإلهام منه وتوفيق، بقوله "إن اتفاقية مبادئ سد النهضة التي تمت بين مصر وإثيوبيا والسودان، هي توفيق من رب العزة للرئيس عبد الفتاح السيسي"، مضيفا إنه "يجب العمل على درء الشبهات، والالتحام مع سائر الأشقاء والمشاركين لنا في المياه"، ويختم قوله إن "الله يريد لقائد مصر أن يخطو هذه الخطوة، ويلتحم مع بلاد الجوار"، فماذا، أيها الشيخ، عن مصير الناس حينما تشح المياه.
ماذا يريد هذا الشيخ إلا أن يقطع الطريق على كل تقييم أو نقد؟ ماذا يريد إلا أن يعتبره المعصوم الذي لا يخطئ، بل هو الملهم والمسدد، ماذا يريد هذا الشيخ إلا أن يجعل من الدين مساحات تخص المنقلب يحتكرها، حتى تسنده أو تؤيده، ماذا يريد إلا أن ينافق ويمالئ في أمرٍ ليس هو من أهل ذكره، ولا من متخصصيه. ليس هذا الشيخ إلا من جوقة المبررين، وكأنه يقوم بدور إعلاميين، اعتادوا الكذب والإفك، أو من جوقة ادعت، منذ البداية، أن المنقلب ليس سوى رسول مرسل، أو من مجموعة احترفت أن تكون جزءاً من غطاء لهذا المنقلب، تضفي شرعية على غصبه، وتؤيد قراره، حتى لو كان واضحاً في التفريط في مصالح البلاد والعباد؟
حينما يأتي عالم السلطان، فتكون عينه على المستبد المنقلب يتفحص رغباته، ويُدخل الدين في ساحة غير ساحاته، إرضاء للمستبد، وتلمسا لهواه ورغباته، ومساهمة في ترويج أحلامه وترهاته، فإن العيب ليس فقط على المستبد، بل العيب كل العيب على علماء السلاطين الذين يصرون على أن يكونوا في جوقة المتاجرين، أليس ذلك كله عين التجارة بالدين؟
لا يستدل المنقلب بآية قرآنية، ولا حديث نبوي، في خطاب أو حوار أو كلمة موجهة لجمهور، لكنه يدلي بدلوه في الإسلام على مستويين: الهجوم على رؤية الإسلاميين، والإخوان خصوصاً، للإسلام ودوره في الحياة العامة والسياسية، والتي يعتبرها سبب البلاء الذي حل بمصر، وعلّة الانقلاب ومبرره. والمستوى الآخر رؤيته البديلة التي يراها الأصح والأحق بالتبني من الدولة والمجتمع في مصر. وفي الحالين، ثمة علاقة قوية بين الخطاب الديني لهذا السياسي المستبد بحكم مصر منذ "3 يوليو" وخطاب مشايخ مؤيدين للانقلاب. في هذا الإطار، يعمل عبد الفتاح السيسي على إعادة تشكيل الصورة، ليحذف منها ما يشاء، ويكيّف ما يريد منها كما يشاء، مختاراً المدخل الأيديولوجي ولغة دينية بسيطة، في رسم صورة (صراع على الإسلام).
في ما لم يلتفت إليه كثيرون، يشتمل خطاب السيسي على مادة مهمة عن الدين، الإسلام وحقيقته، وخصائصه، ودوره في المجال العام والسياسي، كما يتصوره السيسي ويعرضه، أو يفرضه. في حديثه عن علاقته بالدين، يؤكد المنقلب أنه المسؤول عنه، وعن قيمه، وذلك بقوله لقناة "سكاي نيوز عربية" في مايو/أيار 2014 إنه لن يسمح بعودة الأمور إلى ما كانت عليه، ولن يسمح بوجود قيادة دينية، وأضاف "أنا مسؤول عن كل حاجة في الدولة، حتى دينها، وأنا مسؤول عن القيم والمبادئ والأخلاق والدين". هكذا في لغة احتكارية، أمم المنقلب الدين لمصلحته، وجعله ملكية خاصة له؛ يحدد معناه ومبناه وصحيحه من الخطأ المتعلق به، أو الإساءة إليه، كما يرى على أساس من رغبته وفهمه، في إطار تأميم الدولة للدين.
واعتمد كل هؤلاء المستبدين على فئة شكلت الظهير الديني للمستبد، يقومون، في كل مرة، بمعزوفة خطيرة، يجعل من هؤلاء في خدمة السلطان، يسوغون له كل ما يقول، وكل ما يرغب، أو يهوى، فجعلوا من هواه ومن رغباته "سنناً شرعية"، من خلال سلطانهم الديني، وما يمثلونه من مؤسسات، هؤلاء الذين يجدون المستبد في حرج، فيتوافدون في خطاباتهم، ليساندوه بصنوف الكلام، وبعضهم يجعل من كلامه فتوى، ويجعلون قول المستبد أو رغباته أو أفعاله محلاً للتوفيق الإلهي؛ فهو الحاكم بأمره، والمفوض من الله، إن قال فهو المُسدد، وإن فعل فهو المجدد، وإن اتهم عالم المسلمين بأسره فإنه الصادق الذي يحمل في كلامه عنوان ثورة دينية، يجب أن تكون على كل من عبّر عنه وأراد.
أمور السياسة وقرارات المستبد وكأنها مُسانَدَة من الرب، ومُؤيَدِة من الشعب؛ إنه ضمن رؤيتهم ليس إلا المنقذ المخلص الذي يرعى المصالح فيؤديها، ويتخذ القرارات فيمضيها، أيا كانت تلك القرارات، وإن تعلقت بمسائل فنية، يجب أن يتحدث فيها أهل الذكر وأهل الاختصاص، فإن انتقد بعض من هؤلاء من أهل الاختصاص قراراته أو أفعاله، مواقفه أو سياساته، خرج علماء السلطان، ليحافظوا على صورته باعتباره المسدد والمخلص، فقالوا يا هؤلاء "إنه هو المُسدد من الله، أتتجرأون على انتقاده ومراجعته، وكأنه عندهم لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون".
قفز أحدهم إلى الواجهة بتصريح خطير، يؤمم الدين لمصلحته، بل يجعله متحدثاً باسم الله، ومسدداً بإلهام منه وتوفيق، بقوله "إن اتفاقية مبادئ سد النهضة التي تمت بين مصر وإثيوبيا والسودان، هي توفيق من رب العزة للرئيس عبد الفتاح السيسي"، مضيفا إنه "يجب العمل على درء الشبهات، والالتحام مع سائر الأشقاء والمشاركين لنا في المياه"، ويختم قوله إن "الله يريد لقائد مصر أن يخطو هذه الخطوة، ويلتحم مع بلاد الجوار"، فماذا، أيها الشيخ، عن مصير الناس حينما تشح المياه.
ماذا يريد هذا الشيخ إلا أن يقطع الطريق على كل تقييم أو نقد؟ ماذا يريد إلا أن يعتبره المعصوم الذي لا يخطئ، بل هو الملهم والمسدد، ماذا يريد هذا الشيخ إلا أن يجعل من الدين مساحات تخص المنقلب يحتكرها، حتى تسنده أو تؤيده، ماذا يريد إلا أن ينافق ويمالئ في أمرٍ ليس هو من أهل ذكره، ولا من متخصصيه. ليس هذا الشيخ إلا من جوقة المبررين، وكأنه يقوم بدور إعلاميين، اعتادوا الكذب والإفك، أو من جوقة ادعت، منذ البداية، أن المنقلب ليس سوى رسول مرسل، أو من مجموعة احترفت أن تكون جزءاً من غطاء لهذا المنقلب، تضفي شرعية على غصبه، وتؤيد قراره، حتى لو كان واضحاً في التفريط في مصالح البلاد والعباد؟
حينما يأتي عالم السلطان، فتكون عينه على المستبد المنقلب يتفحص رغباته، ويُدخل الدين في ساحة غير ساحاته، إرضاء للمستبد، وتلمسا لهواه ورغباته، ومساهمة في ترويج أحلامه وترهاته، فإن العيب ليس فقط على المستبد، بل العيب كل العيب على علماء السلاطين الذين يصرون على أن يكونوا في جوقة المتاجرين، أليس ذلك كله عين التجارة بالدين؟