تعالت الأصوات مرة أخرى، أو مرة عاشرة... بعد المائةِ رُبما، وأقبلَ بعضُهُم على بعضٍ يتلاومون، بل يتشاجرون ويتقاذفون ويتنابزون بالألقاب، فأصحاب اليمين يقولون إن احتياطي النقد الأجنبي وصل إلى مستويات ما قبل الثورة، وفي ذلك شهادة نجاح للنظام الحالي بخروج مصر من عنق الزجاجة، و"بشرة خير" بأن الأيام المقبلة ستكون تجسيدا للبقرات السمان، يكون فيها المصريون على الأرائك متكئين، لهم في بلدهم فاكهة ولهم ما يشتهون!
وأما أصحاب الشمال فيقولون إن زيادة الاحتياطي لم تحدث إلا من خلال الاقتراض، وإن هذا الاقتراض سيكون وبالاً على البلاد، بعد أن يُدخِلَها في النفق المظلم للديون الخارجية، وأن ظاهرة ارتفاع المديونية الخارجية هي إحدَى الكُبَر، وأنها يجب أن تكون نذيرا للبشر بما يمكن أن يحدث في الشهور القادمة.
وفي محاولة لئلا أكون منتميا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فّضلت أن أتعامل مع الأرقام فقط، وبدون أي عواطف: فالأرقام الرسمية تشير إلى أن الاحتياطي كان مساويا تقريبا للدين الخارجي (حوالي 36 مليار دولار) بنهاية 2010، ثم انهار بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 لأسباب سبق ذكرها عدة مرات حتى وصل إلى حوالى 12-13 مليار دولار في نهاية 2012، بينما ظل الدين الخارجي كما هو تقريبا.
وظلت الأمور على هذا الحال أو حوله، مع ارتفاع طرفي المعادلة، حتى منتصف 2015 (الاحتياطي أصبح أقل قليلا من 20 مليار دولار، والدين الخارجي أقل قليلا من 40 مليار دولار).
بعد ذلك، تطورت الأمور بصورة غريبة، إلى أن وصلنا، في أغسطس/آب 2017، إلى مستوى 36 مليار دولار احتياطيا، بينما كان آخر رقم متاح للدين الخارجي هو أقل قليلا من 74 مليار دولار، بنهاية مارس/آذار من نفس العام.
ولو افترضنا أن الدين الخارجي ظل كما هو، خلال الفترة من مارس/آذار إلى أغسطس/آب 2017، وهو الأمر المستبعد، نظرا للنشاط غير المسبوق للسيدة وزيرة الاستثمار سحر نصر و"الاقتراض الخارجي"، فإن الصورة تكون كارثية.
ولا أناقش هنا إن كان الاحتياطي قد زاد من موارد حقيقية أم من الاقتراض، وإنما الذي يؤرقني هو أنه إذا كان الدين الخارجي قد زاد، خلال الفترة من منتصف 2015 (أي قبل انتهاء أعمال حفر قناة السويس الجديدة بأقل من شهرين) بحوالي 34 مليار دولار، فإن الاحتياطي لم يرتفع إلا بحوالي 16 مليار دولار.
الأرقام السابقة تشير إلى مجموعة من الحقائق يمكن تلخيص أهمها فيما يلي:
أولا: لدينا نزيف مستمر بسبب وجود عجز في ميزان المدفوعات (الفارق بين ما يدخل البلد وما يخرج منها كل عام من العملة الصعبة).
ثانيا: هذا النزيف قُدّر بحوالي 18 مليار دولار في آخر عامين ماليين (يوليو/تموز 2015 – يونيو/حزيران 2017)، وبمتوسط حوالي 9 مليارات دولار كل عام.
ثالثا: هذا النزيف جاء رغم اتخاذ الحكومة العديد من القرارات تحت عنوان "الإصلاح الاقتصادي"، أي بعد تعويم الجنيه وانخفاض قيمته أمام الدولار بصورة كبيرة في السوق الموازية أولا، ثم رسميا في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وأيضا بعد أن رفعت الحكومة الجمارك على العديد من السلع المستوردة، وهو ما حد كثيرا من الاستيراد، وبعد أن أدى ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه إلى إحجام الكثيرين عن السفر للخارج كما اعتادوا.
رابعا: هذا النزيف حدث أيضا رغم رفع الحكومة نسبة كبيرة من دعم وبالتالي أسعار البنزين والسولار والكهرباء والمياه ورغيف العيش.
خامسا: هذا النزيف حدث أيضا رغم انخفاض السعر العالمي للبترول الذي نستورده بمقدار النصف تقريبا من 100 دولار إلى 50 دولارا للبرميل، وأيضا انخفاض الأسعار العالمية لكثير من السلع، وعلى رأسها القمح الذي تُعَد مصر أكبر مستورد له في العالم.
ما أريد أن أقوله هنا هو أن نزيف مليارات الدولارات قد حدث على الرغم من وجود العديد من المتغيرات التي كان يفترض لها أن تمنع هذا النزيف، كما أنه قد حدث في فترة قصيرة نسبيا، وهو ما يدل على وجود أزمة كبيرة، لم تنجح الحكومة حتى الآن في التعامل معها.
ويمكن تشبيه ما حدث بما كان يحدث في فترة الستينيات والسبعينيات للأسرة المصرية حينما تضيق بها الأحوال، ويعجز دخل الزوجين معا عن الوفاء بالالتزامات، فيضطرا إلى اقتراض مبلغ كبير من بعض المعارف أو عمل جمعية، ثم يفاجأ الزوجان مع مرور الوقت أنه رغم أن أزمتهما لم تُحَل، فإن ديونَهما والتزاماتِهما قد تضاعفتا!
هذا تحديدا ما حدث في العامين الأخيرين. تضاعفت القروض، بالتزاماتِها وأقساطِها ومواعيد سدادِها، ولم تُحَل أي من أزمات مصر الاقتصادية.
فمعدلات النمو محبطة جدا، ويتضاعف أثر انخفاضها مع غياب أي آلية لضمان عدالة التوزيع، والبطالة آخذة في الارتفاع، والتضخم عند أعلى مستوياته في عقود، وعجز الموازنة يدفع الدولة إلى الوصول بالدين العام إلى أعلى مستوى له في تاريخ مصر، كما أن ميزان المدفوعات يعاني من خلل دائم، وهو السبب الرئيسي لحدوث نزيف العملة الصعبة، رغم ارتفاع الدين الخارجي إلى مستويات غير مسبوقة.
ولو استمررنا على نفس الطريق، فسيستمر الدين الخارجي في الارتفاع، وستزداد الفجوة السلبية بينه وبين الاحتياطي بصورة لا تنبئ إلا بمزيد من التنازل عن الأراضي والجزر.
في أميركا، تسابق الحكومة الزمن حاليا حتى تتمكن من الحصول على موافقة الكونغرس على زيادة سقف الاقتراض قبل نهاية أغسطس/آب الحالي حتى يستطيعوا الوفاء بالتزاماتهم. فاقتراض الحكومة هناك محدود بسقف لا يمكن تجاوزه إلا بعد الحصول على موافقة الكونغرس، ولفترة محدودة، تلتزم الحكومة قبل انتهائها بخفض المديونية مرة أخرى إلى ما دون هذا السقف.
أما عندنا، فمن الواضح أنه لا يوجد أي سقف للاقتراض داخلياً أو خارجياً، كما أنه ليست كل نفسٍ بما اقترضت رهينة، وأخشى ألا أجد ما أقوله لأبنائي وأحفادي حين يتعين عليهم سداد ما اقترضنا، وقد لا يجدون وقتها جزرا يبيعونها أو أراضي يرهنونها.