01 نوفمبر 2024
مهزلة اكتملت أركانها في مصر
بين مشهد صناعة التأييد، ويوم التمديد، وعمليات التهديد، اكتملت أركان المهزلة؛ مهزلة الانتخابات الرئاسية في مصر، وقد أريد لها أن تشرعن حالة انقلابية. ومن هنا، كان مشهد التأييد في لغة الاستعلاء التي صدّرها المرشح الرئيس، أو الرئيس المرشح، حينما صدر التأييد بأنه الأمر المفروض، ولا ينبغي النقاش فيه، بل من منظور ذلك الاستعلاء، أكد أنه لن يفعل أي شيء يتعلق بمرشح حقيقي، ولكنه، مع ذلك، يطلب من الجميع أن يؤيدوه، واشترط لذلك الرقم الوهمي من فِريةٍ صدقوها: أنه يريد، على الأقل، تأييد أربعين مليوناً من الناخبين.
أسطورة التأييد السابقة على إجراء الانتخابات أوصلتنا إلى عمليات التهديد حيث صرخت الآلة الإعلامية من مقاطعةٍ، كانت بادية وأكيدة من هذا الشعب المصري العظيم في اليومين، الأول والثاني، من الانتخابات، وللأسف، وفي عملية تزوير كبرى، انطلق هؤلاء جميعاً من لجنة عليا، ومن مرشحين، إلى مهزلة التمديد ليوم ثالث، على الرغم من أن الانتخابات اقتصرت على مرشحين اثنين ويومين اثنين.
جاء المشهد الانتخابي الانقلابي بمفاجأة كبيرة للجميع في مصر: سلطة الانقلاب، ورافضيه، والقوى السياسية والمجتمعية، والشعب نفسه، والخارج: أن الشعب المصري أحجم بنسبة عالية جداً عن الإقبال على لجان الاقتراع في انتخابات رئاسة نظام الانقلاب. فخلال نحو السنة، وخصوصاً في الشهرين الأخيرين، جرت عملية واسعة وصاخبة من التحضير للانتخابات، وربطها بمفهوم التفويض الشعبي للسلطة الجديدة في إدارة البلاد، بدعوى إرادة 30/6، ثم نُقل التفويض لحكم مصر وإدارة الصراع السياسي والمستقبل، من المؤسسة العسكرية وحكومتها المعينة إلى شخص وزير الدفاع المستقيل للترشح لمنصب الرئاسة، عبد الفتاح السيسي.
كان الأثر بالغاً حين ظهر السيسي للعيان سياسياً مدنياً، مرشحاً للرئاسة، يُسأل عن رؤيته للواقع والمتوقع والمستقبل، وما يجب عمله فيه، وبرنامجه، ويستعرض في إجاباته شخصيته، وطريقتيه في التفكير والتعبير، وحلوله لمشكلات بلد يئن تحت تلال من المعاناة والقلق، ويعرض مواقفه من القوى السياسية والمجتمعية، ومن الخارج.
ومع هذه "المحورية للسيسي" و"الدور الباهت لصباحي"، استقر في الساحة المصرية أن الانتخابات المقبلة تحصيل حاصل، ولا معنى لها؛ فالسيسي يتصرف ويتكلم بوصفه رئيساً لا مرشحاً محتملاً، فيما حمدين صباحي يلعب ببراعة دور معارض المستقبل، الأليف على غير عادته وسيرته، ومما زاد المسرحية هزلاً أن ينسب حمدين نفسه ودوره إلى كل من الثورة والشباب، ويدّعي أنه مرشحهما.
والخلاصة، لقد اختُصر الانقلاب وما أعقبه وترتب عليه من ويلاتٍ، ذاقها المصريون جميعاً، ولاسيما مقاومو الانقلاب، وما سيترتب عليه من مستقبل سياسي ووطني قريب، أضاف السيسي وخطابه إليه ظلالاً قاتمة ومخيفة لكثيرين، اختصر ذلك كله في كلمة واحدة وصورة واحدة وواقعة واحدة، اسمها: (السيسي)، وبات اختبار الموقف منه، ومن كل هذه التركيبة، معلّقاً على إجابة المصريين عن سؤال واحد: ما موقفك من انتخاب السيسي رئيساً لمصر؟
لحظة ترشحه للرئاسة، بدا أن السيسي استجمع، واستكمل، التأييد الذي حظي به "3 يوليو"، إلا قليلاً ممن راجعوا وتراجعوا، مؤسسات الدولة تؤازره بكل وضوح وإصرار، والفلول حاضرون في الحملة، والواجهة الإعلامية والدعاية الانتخابية في الشوارع، والمؤسستان الدينيتان، الإسلامية والمسيحية، برؤوسهما ورموزهما، تحفان الركب بالمباركات والحشد والفتاوى، ومن ورائهما صوفية وأشراف وطائفية فجة، والقوى السياسية تتبارى في إعلان التأييد، والخارج يراقب، ويترقب منح رخصة الشرعية الخارجية؛ لينهي حالة التأرجح المفتعلة التي تخفي تأييداً محققاً للانقلاب .. الجميع في خدمة "الملك" أو "المنقذ"، وفي انتظار يوم التتويج.
لقد حُسب فعل ورد فعل الجميع، ماعدا فاعلاً واحداً؛ لأنه لم يعد يعتبر فاعلاً بقدر ما هو مفعول به، أو احتياطي مستدعى بلغة العسكر؛ إنه الناس، الشعب، المجتمع، الأمة. وجاء يوم 26 مايو 2014: اللجان معدّة، تسلمتها قوات الجيش والشرطة وأمنتها، وأعدتها. الصناديق موجودة، وأوراق الاقتراع التي طبعتها الشرطة جاهزة، وليس فيها سوى اسمين، أو اسم وظله، وحضر ممثل القضاء المشرف ومساعدوه، والإعلام ناشر كاميراته في كل المحافظات واللجان العامة والفرعية، ومندوبو المرشحين موجودون، وبعض شباب حزب النور على أبواب اللجان يساعدون من يريد معرفة مكان لجنته ورقمه الانتخابي، ورسائل الموبايل متتالية، لمعرفة مكان اللجان بالرقم القومي... ولكن أين الناس؟ أين الشعب؟ حضر قليلون أدلوا بأصواتهم ثم رقصوا على نغمات (بشرة خير) ثم تقريباً: لم يحضر أحد، لم يحضر أحد، لم يحضر أحد.
تفسيرات متعددة تلوح في الأفق، وبعضها يهول، ويرى أنها صفعة كبيرة من الشعب، أو القطاع الأكبر منه، وخصوصاً الشباب، على وجه الانقلاب والسيسي، ونزع لشعبيته وشرعيته ومشروعية العملية الراهنة برمتها، ومكسب كبير لثورة يناير، وبعضها يهوّن، ويكتفي بأنها تتعلق فقط بالعملية الانتخابية نفسها: محسومة مسبقاً فلا داعي للمشاركة فيها، مملة لا تنافسية حقيقية فيها، مسرحية هزلية، لا تؤثر في الأمر الواقع المفروض، المسرحية الهزلية أعد لكل شيء فيها، البطل الزائف والكومبارس الخائف، والممثلون من ذوي الأدوار الثانوية، إلا أنه لم يعمل حساب الجمهور، استعلاءً أو استخفافاً.
من ثم، ليس هذا الإحجام برفض شرعية الانقلاب، أو اعتراضاً عليها، أو على شعبية السيسي، لكن حجم الإحجام ليس عادياً، حتى يسمح بهذا التهوين، ولا نوعيته تسمح بذاك التهويل، كما أن سبق الإصرار والترصد، والجماعية الأشبه بالاتفاق المسبق بين قطاعات الشعب، ثم استمرار التعمد والإصرار، بعد الإغراءات والتهديدات الإعلامية، لها دلالاتها التي تحتاج من الجميع إلى تمحيص حقيقي، في سبيل التعرف العميق والدقيق على "عقلية الشعب"، أو "العقل الجماهيري المصري" الذي يبدو أن الجميع يستخف بضرورات التعرف عليه، والتواصل معه.
لم ينزل الناس لهذه الانتخابات، مع علمهم، وعلم الجميع، أنها شهادة شرعية للسيسي، ولنظامه الانقلابي السابق واللاحق، ومعناها أن قطاعاً أكبر من الناس صار منفصلاً عن اللعبة ما بين المحايد والرافض، وإن لم يعن هذا انضمامه، بالضرورة، إلى صفوف مقاومة النظام الانقلابي، والعمل على استعادة المسار الديمقراطي. هذه عملية رفض متراكمة، وانسحاب من "شعب السيسي" إلى مسؤوليته الراهنة والقادمة عما صدّر نفسه له، وأوصل الوطن إليه. لم يعد صندوق الانقلاب قابلاً لمزيد من خطوط التأييد والإمداد بمظاهر الشعبية المصطنعة، الزاعقة والزائفة، والمضخمة إعلامياً في ظل خطاب أجوف منتفخ، ولا يكفي أن يرسل لشعبٍ يعاني الأمرين في حياته اليومية عبارات الحب (نور عنينا) رغم انقطاع الكهرباء المتكرر، وأغنيات الراقصين (تسلم الأيادي وبشرة خير) بقدر ما هو مطالب، أي هذا النظام الانقلابي، أن يترجم التأييد إلى ثمن، بمعاشه وحياته وإنجازات سريعة.
لم ينزل الناس لهذه الانتخابات لكل هذه الأسباب المذكورة، منفردة ومجتمعة، بتنوع أطياف الظاهرة الشعبية المصرية، لكن، من الأهمية بمكان الإشارة إلى "أخطاء السيسي" في حق مؤيديه، فضلًا عن خطاياه في حق أنصار الشرعية ورافضي الانقلاب العسكري، وما تعنيه من دلالات مستقبلية: فمقولات مثل (ما فيش .. أنا مش قادر أديك .. انتم هاتكلوا مصر .. هاتموتوا مصر؟ ..)، وردود مثل اللمبة الموفرة وعربة الخضار والصبر سنتين، والديمقراطية السجينة سجنا مؤبداً خمسة وعشرين عاما... إنما هي نداءات إحباط واضحة، لا يتحملها هذا الشعب، خصوصاً إذا صدرت عمن يجلس في ما يشبه القاعات الملكية الفاخرة، عالية الفخامة والأبهة، بين مفارقة "مشاهد مفيش.. ماعنديش"، كان الأمر يطفح "بمشاهد الهبش والتكويش".
لم ينزل الناس اعتراضاً على العملية الانتخابية المحسومة، والمسرحية الهزلية المكشوفة، واعتراضاً على هذا الاستخفاف الفرعوني بعقول الناس ومعاناتهم وآلامهم. ولم ينزل الناس اعتراضاً وإحباطاً، وهم يرون من يطيح آمالهم المتواضعة بكل سهولة وراحة ضمير، وهم يرون الوجه العسكري للحكم الجديد يطل في كلمات (مش هاسمح لك... الديمقراطية في مصر أمامها 25 سنة.. لا مصالحة..).
من واقع استكمال أركان المهزلة الانتخابية التي فاقت هزلية انتخابات حسني مبارك المخلوع في برلمان 2010، والمقاطعة الشعبية، والأداء الهزلي للمرشح الكومبارس، والصدمة التي وقعت كالصاعقة على المرشح الرئيس وصحبه؛ يشير ذلك كله، في حقيقة الأمر، إلى إمكانات مهمة، تولد من رحم هذه الانتخابات الهزلية، لتؤكد على ضرورات الاصطفاف، والقدرات التي توفرت للقيام بهذا العمل الاصطفافي الذي صارت فرصه أكبر، في إطار اقترنت فيه عناصر الثورة المضادة (المرشح الرئيس)، وعناصر الهزل الثوري (المرشح الكومبارس الذي ادعى تمثيله الثورة) معاً، ما يفرض اصطفاف قوى الثورة الشبابية ضمن صفوف المقاطعة الاحتجاجية لتؤكد أن النظر إلى المستقبل شأن آخر، يتعلق بأن الاصطفاف ضرورة، والثورة مستمرة، والأمل في الشباب، الشباب الذي تصدّر مشهد المقاطعة في الانتخاب سيتصدر مشهد الثورة والمقاومة، في الفعل والخطاب.
إنه درس ثورة يناير "من جوف مهزلة الانتخابات تولد شرارة الثورات"، تعلّمه يا فرعون مصر الجديد.