موسم الرقص مع العدوّ

16 يناير 2019
+ الخط -
يراهن الإسرائيليون اليوم على خراب العالم العربي، وتفككه طائفياً وإثنياً، كي يمرّروا، وبتواطؤ من حكام عرب، ما يسمونها "صفقة القرن" التي هي نسخةٌ معدلةٌ من وصايا زعيم اليمين الصهيوني، زئيف جابوتنسكي، الذي دعا أتباعه قبل مائة عام إلى أن يعتمدوا خطة طويلة النفَس، في بناء دولتهم في فلسطين والدول العربية المحيطة بها، وأوصاهم أن يستغلوا خراب العالم العربي وتفككه، كي يرسّخوا أقدامهم هناك، وحذّرهم من أن العرب، مهما بلغوا من التأخر، فإنهم لن ينسوا فلسطين. ولذلك من المهم ترويضهم على القبول بالأمر الواقع، وتطويعهم من خلال إعطائهم بعض "الفتات"، والإيحاء لهم بأن لهم دوراً في المجتمع! 
وقد تذكر الإسرائيليون، وهم في حمّى سعيهم إلى تحقيق هذا الهدف أن العراق ظل عصياً عليهم منذ قيام الدولة العبرية، إذ هو البلد العربي الوحيد الذي لم يوقع اتفاقيات الهدنة التي جرى التوافق عليها في حينه. ولذلك هو، من الناحية القانونية، لا يزال في حالة حربٍ معها. وقد اعتبر العراقيون فلسطين قضيتهم الأولى، ومنذ عهد الملوك، ومرورا بالجمهوريات، لم يتخلّ حكام العراق عن فلسطين، ولم يستسلموا لدعوات الترويض أو التطبيع أو النأي بالنفس، لكن الآن ثمّة زمان آخر، فقد تغير الوضع على مدى السنوات العجاف التي أعقبت الاحتلال الأميركي للبلاد، واستجدت حالة انكفاء في الرؤية لدى الحكام الجدد تجاه فكرة العروبة.
والقضايا العربية حفزت الإسرائيليين على التقدم بخطواتٍ عمليةٍ لإرساء لغة مشتركة تضمن التعايش والتطبيع بينهم وبين العراقيين.

وفي المقابل، ظهر في العراق نفسه من يدعو إلى التخلي عن فلسطين، بزعم أنها مسؤولية أهلها، متسائلاً بخبث عما كسبه العراقيون من معاداة إسرائيل، ومروّجاً ما يسميها الاستفادة في بناء الدولة العراقية الجديدة من قدرات الإسرائيليين وخبرتهم، ومبشراً بتعاون استراتيجي بين بغداد وتل أبيب يتم لاحقاً، كما حضرت على ألسنة مثقفين وكتاب مقولات مغلفة بإطار إنساني، مثل الإشارة إلى ظلم لحق باليهود المهجرين من العراق، منتصف القرن الماضي، والدعوة إلى إعادة أملاكهم التي يقال إنهم تركوها قسراً، أو التركيز على أعمال العنف والنهب (الفرهود) التي حدثت في بداية الأربعينيات، وقتل فيها عدد من اليهود، والتي لا تزال مثار جدل، بهدف استدرار العطف عليهم، يرافق ذلك تسجيل الإعجاب بالتجربة الديمقراطية (!) داخل الدولة العبرية.
في خضم هذا الوقائع والأحداث، لم نجد جديداً في ما قالته وزارة الخارجية الإسرائيلية عن "مبادرة" عراقية بزيارة وفودٍ تضم شخصياتٍ سياسيةً وبرلمانيةً ذات نفوذ وتأثير إلى إسرائيل ولقاءاتها سياسيين وأكاديميين، وزياراتها متحف "ياد فاشيم لتخليد ضحايا المحرقة النازية"، فقد حدث مثل هذا مراراً على امتداد العقد الأخير، وجرى التكتم عليه، خوفاً من نقمة الرأي العام، لكن تل أبيب، هذه المرة، أرادت أن تكشف عن الزيارات الأخيرة، وتفضح القائمين بها، كي تدفع باتجاه عملية تطبيع واسعةٍ لا تريدها أن تظل خفية!
كما لم نجد جديداً أيضاً في ما أعلنه موشيه كحالون، وزير مالية العدو (الصديق!)، أن حكومته رفعت العراق من "قائمة الأعداء" المعتمدة رسمياً، وأن ذلك يتيح إمكانية التبادل التجاري بين البلدين، مشفوعاً بتأكيد المتحدث باسم وزارة الخارجية، أيمانويل نهشون، على أهمية الحوار بين البلدين، ومتزامناً مع تصريح محمد الحكيم وزير الخارجية العراقي الذي اقترب فيه من الاعتراف بالدولة العبرية، ثم عاد وزعم أن تصريحه ذاك أسيء فهمه، وأيضا مع انطلاق "سفارة إسرائيل الافتراضية" الخاصة بالعراق على الشبكة العنكبوتية، والتي هدفها الرئيس هو السعي إلى إحداث اختراق في العلاقة بين العراقيين والإسرائيليين!
هكذا يبدو قطار التطبيع سائراً بأقصى سرعة نحو هدفه المرسوم، وقد ألقى دعاة التطبيع بعض أوراقهم، واحتفظوا بالباقي إلى حين، يبقى أن ما طرح ليس سوى الصفحات الأولى من مخطط شرير، يضع العراق والعالم العربي كله بأناسه وثرواته في عهدة الدولة العبرية عشرات السنين، وهو أشبه بجبل الجليد الذي يكون الجزء الغاطس منه أكبر من الجزء الظاهر.
وعلى أية حال، هذا هو موسم الرقص مع العدو، وإذا نجح المطبّعون في أداء الخطوات الأولى في رقصة التانغو التي تعني اللقاء والعناق، وإذا ما استمر حال التفكك والخراب في أوطاننا فسوف يتوجه هؤلاء إلى أداء "التانغو" الأخير في تل أبيب، وأتمنى أن لا تصدق نبوءتي المتشائمة هذه!
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"