09 نوفمبر 2024
مونديال روسي في الجنوب السوري
نفت وزارة الدفاع الروسية، يوم 27 يونيو/ حزيران الجاري، انسحابها من اتفاقية منطقة خفض التصعيد في جنوب سورية. وفي اليوم نفسه، قال سفير روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبيزيا، في إفادةٍ أمام مجلس الأمن "إن العمليات العسكرية في تلك المنطقة لا يمكن إيقافها"، وقد جاء الموقف الروسي رداً على مطالباتٍ فرنسيةٍ وبريطانيةٍ بإيقاف العمليات التي كان مضى عليها يومذاك أسبوع. ولا تجد موسكو حرجاً في عمليات التدليس هذه، إذ ترى فيها ضرباً من البراعة السياسية والدبلوماسية، وفرصة أخرى للاستهانة بالعقول والتلاعب بالوقائع.
وقد ترافق المونديال الروسي في جنوب سورية مع المونديال الرياضي الدولي الذي تستضيفه روسيا. ولا شك أن صانعي القرارات في موسكو رأوا اختيار هذا التوقيت لتصفية المعارضة، و"تطهير" البيئة الشعبية الحاضنة، مثالياً، علاوة على انشغال الجار التركي بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية وما بعدها، فيما تنشغل واشنطن بتسويق صفقتها الشرق أوسطية، وهي الصفقة التي تدلل على التصاقٍ أميركي متمادٍ بالاحتلال ومصالحه. وعلى مستوىً موازٍ، فإن لعبة اللجنة الدستورية التي ينغمس فيها المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، تكفل بصرف الأنظار عما يجري على أرض الجنوب السوري، وفي أجوائه.
وقد تميز الأداء الروسي كالعادة بقصف المراكز الطبية، وإخراجها عن الخدمة، وتشريد 45 ألفاً من أبناء المنطقة، وتعتبر هذه النتائج "روتينية"، إذ إنها تتلازم بصورة دائمة مع الجهد
العسكري الروسي الجبار الذي يستهدف، على الدوام، المدنيين والمرافق المدنية، وخصوصاً مراكز الإغاثة والدفاع المدني والأسواق الشعبية وتجمعات النازحين. وقامت القوات الروسية (ومركز المصالحات!) بتمكين مليشيات شيعية تتبع إيران، منها لواء ذو الفقار من اقتحام المنطقة، وخوض جهادها المقدس هناك ضد المدنيين، وضد المعارضة. بينما تركز النشاط العسكري الروسي على أداء القاذفات المقاتلة وإطلاق الصواريخ. وعلى الرغم من التصريحات الروسية عن سحب القوات الأجنبية، بما فيها الإيرانية، إلا أن موسكو، وكما يدل سلوكها، ترى أن الحاجة لوجود المليشيات، اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية التي تتبع إيران، لم تُستنفذ بعد، فضلاً عن أنه لا بد من اللعب بورقة الوجود الإيراني في المساومات مع أطرافٍ دوليةٍ وإقليميةٍ عدة، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، ولتقليل عدد الأكثرية السورية السنّية، ففي السياسة، يجب مراكمة نقاط الفوز، وممارسة البيع والشراء بذكاء.
وهكذا، ففيما يتابع العالم، بما فيه الشعوب العربية، بشغف، مونديال كرة القدم في روسيا، فقد كان هذا البلد المضيف يقتنص فرصة الانشغال بالمباريات، ويقيم مونديالاً آخر في جنوب سورية، ذا طبيعةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ، وبممارسة كل ما يتيسر من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ضد شعبٍ فاقت نكبته كل الحدود والتصورات. وقد ذهبت تحذيرات واشنطن لموسكو أدراج الرياح، لأنها في الأصل كلماتٌ في الهواء، ومثلها دعوات أوروبية لموسكو باحترام الاتفاقيات، ذلك أنه بالنسبة لموسكو يكفي الالتزام اللفظي والدعائي بالاتفاقيات، دونما حاجة لالتزام فعلي بها.
ولا شك أن موسكو سعيدة بانعدام ردود الفعل الشعبية العربية على مونديال جنوب سورية، وربما توقعت ذلك، فمشاهد الحطام والأنقاض باتت مألوفة، وجثث أطفال درعا مُلقاة تحت الأشجار لا تستوقف أحداً، وتخلو من كل جاذبيةٍ مقارنةً بأهداف الدقائق الأخيرة في مونديال كرة القدم، الأمر الذي قد يجعل موسكو تصوغ سياساتها في المنطقة استناداً إلى فراغ شعبي عربي، وإلى تواطؤ منظومة أحزابٍ ومنظماتٍ يسارية وعلمانية عربية معها.
وبينما تمثل الحملة على الجنوب السوري امتداداً للحملات العسكرية السابقة التي تؤدي، على الدوام وبانتظام، إلى تقويضٍ أكبر قطاعاتٍ من الأحياء السكنية، واقتلاع آلاف المدنيين، ودفعهم إلى النزوح إلى العراء، فإن الحملة على الجنوب السوري ترتدي خطورةً مضاعفةً، إذ تشكل تحدياً للبلد الجار الأردن الذي لم يعد يملك طاقة استيعاب مزيدٍ من اللاجئين ممن هجّرهم النظام و"داعش" ومليشيات إيران وروسيا، وهي مشكلةٌ لا تستوقف موسكو التي لا ترى مانعاً من بقاء المشرّدين في العراء. بينما تبرز مشكلة أخرى، وهي أن تقدُّم قوات النظام السوري إلى
الحدود مع الأردن يحمل مخاطر تمكين مليشيات إيران من الوقوف قرب المناطق الحدودية، وقد تواترت الأنباء، قبل بداية الحملة الجديدة، أن مليشيات إيران، بما فيها حزب الله، باتت ترتدي ملابس الجنود النظاميين. وتسعى طهران، منذ سنوات، إلى التسلل إلى الأردن، من أبواب شتى، كعرض تصدير أسلحة أو القيام بسياحة دينية ـ أو دعوة ناشطين إلى طهران، أو عرض القيام باستثمارات، وذلك بهدف التسلل إلى المجتمع، كما فعلت مع دول عديدة في المنطقة. وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط عمّان بموسكو، فإن الأخيرة تبدو مندفعةً في حساباتها الخاصة للسيطرة على الموقع السوري، والاستعانة في المرحلة المنظورة بمليشيات إيران، إلى أن تنتفي الحاجة لهذه الميليشيات، وعندها يتم الطلب بانسحاب القوات التركية والأميركية والإيرانية معاً.
أما الصديقة الأخرى للأردن، وهي الولايات المتحدة، فهي لا تجد ما تفعله سوى سحب اليد من هذه التطورات. والراجح أن صفقة القرن تمتد إلى الجنوب السوري، فحين يتم ضمان أمن الاحتلال الإسرائيلي من روسيا وحلفائها، فإنه لا شيء بعدئذ يثير قلق واشنطن، حتى لو توقفت الحرب في تلك الأثناء على تنظيم داعش الإرهابي، وحتى لو واصلت مليشيات إيران تمدّدها (بغطاء جوي روسي)، متّبعة سياسية الأرض المحروقة، هنا وهناك على الأرض السورية.
مونديال جنوب سورية متواصل، وتسعى موسكو إلى حسمه مع انتهاء مونديال كأس العالم لكرة القدم، مع فارق أن لا حكّام في الأول، ولا قوانين تحكم اللعبة الدموية، والمتفرجون، دولاً وشعوباً شقيقة، يديرون ظهورهم لمشهد الكوارث النازلة تباعاً بكل مظاهر الحياة والعمران في منطقة حوران. وبهذه الكوارث، تضيف موسكو انتصارا جديدا لسلسلة انتصاراتها على جورجيا وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وتهيئ للقاء قمة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، على وقع الفصل الجديد من هذه الانتصارات البهية على الشعوب.
وقد ترافق المونديال الروسي في جنوب سورية مع المونديال الرياضي الدولي الذي تستضيفه روسيا. ولا شك أن صانعي القرارات في موسكو رأوا اختيار هذا التوقيت لتصفية المعارضة، و"تطهير" البيئة الشعبية الحاضنة، مثالياً، علاوة على انشغال الجار التركي بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية وما بعدها، فيما تنشغل واشنطن بتسويق صفقتها الشرق أوسطية، وهي الصفقة التي تدلل على التصاقٍ أميركي متمادٍ بالاحتلال ومصالحه. وعلى مستوىً موازٍ، فإن لعبة اللجنة الدستورية التي ينغمس فيها المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، تكفل بصرف الأنظار عما يجري على أرض الجنوب السوري، وفي أجوائه.
وقد تميز الأداء الروسي كالعادة بقصف المراكز الطبية، وإخراجها عن الخدمة، وتشريد 45 ألفاً من أبناء المنطقة، وتعتبر هذه النتائج "روتينية"، إذ إنها تتلازم بصورة دائمة مع الجهد
وهكذا، ففيما يتابع العالم، بما فيه الشعوب العربية، بشغف، مونديال كرة القدم في روسيا، فقد كان هذا البلد المضيف يقتنص فرصة الانشغال بالمباريات، ويقيم مونديالاً آخر في جنوب سورية، ذا طبيعةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ، وبممارسة كل ما يتيسر من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ضد شعبٍ فاقت نكبته كل الحدود والتصورات. وقد ذهبت تحذيرات واشنطن لموسكو أدراج الرياح، لأنها في الأصل كلماتٌ في الهواء، ومثلها دعوات أوروبية لموسكو باحترام الاتفاقيات، ذلك أنه بالنسبة لموسكو يكفي الالتزام اللفظي والدعائي بالاتفاقيات، دونما حاجة لالتزام فعلي بها.
ولا شك أن موسكو سعيدة بانعدام ردود الفعل الشعبية العربية على مونديال جنوب سورية، وربما توقعت ذلك، فمشاهد الحطام والأنقاض باتت مألوفة، وجثث أطفال درعا مُلقاة تحت الأشجار لا تستوقف أحداً، وتخلو من كل جاذبيةٍ مقارنةً بأهداف الدقائق الأخيرة في مونديال كرة القدم، الأمر الذي قد يجعل موسكو تصوغ سياساتها في المنطقة استناداً إلى فراغ شعبي عربي، وإلى تواطؤ منظومة أحزابٍ ومنظماتٍ يسارية وعلمانية عربية معها.
وبينما تمثل الحملة على الجنوب السوري امتداداً للحملات العسكرية السابقة التي تؤدي، على الدوام وبانتظام، إلى تقويضٍ أكبر قطاعاتٍ من الأحياء السكنية، واقتلاع آلاف المدنيين، ودفعهم إلى النزوح إلى العراء، فإن الحملة على الجنوب السوري ترتدي خطورةً مضاعفةً، إذ تشكل تحدياً للبلد الجار الأردن الذي لم يعد يملك طاقة استيعاب مزيدٍ من اللاجئين ممن هجّرهم النظام و"داعش" ومليشيات إيران وروسيا، وهي مشكلةٌ لا تستوقف موسكو التي لا ترى مانعاً من بقاء المشرّدين في العراء. بينما تبرز مشكلة أخرى، وهي أن تقدُّم قوات النظام السوري إلى
أما الصديقة الأخرى للأردن، وهي الولايات المتحدة، فهي لا تجد ما تفعله سوى سحب اليد من هذه التطورات. والراجح أن صفقة القرن تمتد إلى الجنوب السوري، فحين يتم ضمان أمن الاحتلال الإسرائيلي من روسيا وحلفائها، فإنه لا شيء بعدئذ يثير قلق واشنطن، حتى لو توقفت الحرب في تلك الأثناء على تنظيم داعش الإرهابي، وحتى لو واصلت مليشيات إيران تمدّدها (بغطاء جوي روسي)، متّبعة سياسية الأرض المحروقة، هنا وهناك على الأرض السورية.
مونديال جنوب سورية متواصل، وتسعى موسكو إلى حسمه مع انتهاء مونديال كأس العالم لكرة القدم، مع فارق أن لا حكّام في الأول، ولا قوانين تحكم اللعبة الدموية، والمتفرجون، دولاً وشعوباً شقيقة، يديرون ظهورهم لمشهد الكوارث النازلة تباعاً بكل مظاهر الحياة والعمران في منطقة حوران. وبهذه الكوارث، تضيف موسكو انتصارا جديدا لسلسلة انتصاراتها على جورجيا وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وتهيئ للقاء قمة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، على وقع الفصل الجديد من هذه الانتصارات البهية على الشعوب.