28 أكتوبر 2024
ميثاق حماس بين الثابت والمتغير
أصاب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، خالد مشعل، عندما وصف الميثاق الجديد للحركة، في المؤتمر الصحافي المخصّص لإعلانه في الدوحة، بأنّه جاء بالتوافق والتراضي بين قواعد الحركة، وبالتوافق والتراضي أيضًا مع الأطراف الدولية والإسلامية. فقد استغرقت عملية تعديل ميثاق "حماس" نحو أربعة أعوام، بحسب مسؤولي الحركة، تخلّلتها نقاشات وحوارات وآراء تتوافق عليها قواعد الحركة وأُطرها القيادية أو تختلف. ومن الواضح أنّ أفكارًا رئيسة فيها قد نوقشت مرارًا مع أطرافٍ عربية وإسلامية ودولية، بل وربما جاءت التسريبات السابقة لبنود مهمة فيها بمثابة بالونات اختبارٍ لمعرفة صداها وتبيان ردّات الفعل حولها، كما مُهّد لها بتصريحاتٍ مختلفة لكبار المسؤولين في حركة حماس، تناولت القضايا الخلافية فيها مثل دولة في حدود 1967، أو علاقة "حماس" بجماعة الإخوان المسلمين، بحيث بدت هذه التعديلات انعكاسًا لواقع كُرّس سابقًا في سياسات الحركة منذ انخراطها في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني.
توافق وتراضٍ في الداخل ومع الخارج ليست مجرد جملة تُقال، فهي تعني، بوضوح، أنّ ثمّة آراء تؤيّد هذه التعديلات الجوهرية، بل وربما تدفع باتجاه أوسع مدىً فيها، وثمّة آراء أخرى تعارضها وتتمسّك، قدر استطاعتها، بموروثها القديم، وجاءت المحصلة توافقاً وتراضياً تحمل حلًا، أو لنقل تفسيرًا وتأويلًا لكلا الموقفين، يمكّن كلا منهما من الاستمرار بنهجه، وتطوير اتجاهه فيه.
وبعيدًا عن تفصيل بنود الميثاق كلها، إلّا أنّ الجدل يمتد أساسًا حول نقطتين، تتفرّع منهما البنود الأخرى؛ الأولى إعلان "حماس" أنّها حركة تحرّر وطني فلسطيني ذات مرجعية إسلامية، متجاهلة ما ورد في ميثاقها السابق بأنّها جناح من أجنحة الإخوان المسلمين، ولعلّها بذلك تحاول أن تتجنب سلبيات تلك العلاقة، في ظلّ الظروف الإقليمية السائدة، على المشروع الوطني
الفلسطيني. وأحسب أنّ هذا تطوّر إيجابيٌّ يخدم حركة التحرّر الوطني الفلسطينية. وفي مقابل ذلك، حافظت "حماس" على مرجعيّتها الفكرية المستمدة من الشريعة الإسلامية، وهي التي تُعبّر عنها بوضوح بنود الميثاق ومفرداته اللغوية المختلفة، وهو بالتأكيد حقٌّ لها، وإن كنّا ما نزال نعتقد بحاجتنا إلى رؤية مزيدٍ من التفصيل والتوضيح في الممارسة والنظرية حول نظرة "حماس" بميثاقها الجديد لدورها حركة تحرّر وطني فلسطينية، بما فيها علاقتها الناظمة مع شرائح الشعب الفلسطيني، وطوائفه واتجاهاته السياسية المختلفة، ضمن مرحلة التحرّر الوطني التي لها قوانين معروفة توضّحها وتتحكم في مساراتها.
النقطة الثانية هي تلك التي تتحدّث عن قبول "حماس" الصيغة التوافقية الوطنية المشتركة (بحسب تعبيرها) الداعية إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، أي دولة فلسطينية في الضفة والقطاع. وهي بذلك توافق على أنّ هذا هو المشروع الوطني الفلسطيني المتوافق عليه في هذه المرحلة.
التأكيدات المتتالية، قبل هذا البند وبعده، حول تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ورفض اتفاقية أوسلو، وعدم التنازل عن أي جزءٍ من أرض فلسطين، ورفض أي بديلٍ عن تحرير فلسطين كاملة، إلى آخر هذه الديباجة، لا يُلغي قرار "حماس" بالانضمام إلى مشروع حلّ الدولتين. وهو البند الذي أثار اهتمام الدوائر المختلفة، واعتبر تطورًا في موقف الحركة، أمّا التعبيرات الأخرى المرتبطة بهذا البند، عن استمرار التمسّك بالثوابت، فإنّها تُعبّر عن حالة التراضي بين الآراء المختلفة، لكنّها لا تعكس، بأي حال، سياسةً عمليةً غير التي تضمنتها هذه الفقرة.
حول هذا الموضوع، تبرز ملاحظتان مهمّتان حول هذه السياسة؛ الأولى ينطبق عليها المثل الشعبي الدارج "راح على الحج والناس راجعة"، ذلك أنّ حلّ الدولتين قد تهاوى ومات، أو هو في مراحل النزع الأخيرة، وما عاد سوى شماعة تبرّر بها قيادات السلطة الفلسطينية استمرار بقائها في صدارة الموضوع الفلسطيني. فكان من الأجدى والأجدر أن تبادر حركة حماس في ميثاقها الجديد إلى المساهمة في صياغة مشروع وطني، يضمُّ الفلسطينيين كلهم في الضفة وقطاع غزة والمناطق المحتلة منذ عام 1948 والشتات، بدلًا من محاولة اللحاق بمشروعٍ تعدّ الآن مراسمه الجنائزية، ويسعى القائمون عليه إلى تحويله إلى بقايا كانتونات بصيغة هزيلة لحكم ذاتي محدود ملحق بما تروّجه الدعاية الصهيونية عن سلامٍ مع العرب يشكّل مدخلًا لحلّ (تصفية) القضية الفلسطينية.
النقطة الثانية هي عدم التعلّم من دروس التاريخ، ولا من الأمثال الشعبية التي يقول بعضها "اللي بجرّب المجرّب عقله مخرّب". لم تنسَ الذاكرة الفلسطينية، بعد ما جرى من حوار بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وسعي الأنظمة العربية إلى زجّ الفلسطينيين في التسوية السياسية المُتوهّمة. يومها اعتقد القادة الفلسطينيون أنّ دولةً في الضفة الغربية وقطاع غزة قد باتت قاب قوسين أو أدنى، وخرجوا علينا بمشروعٍ عُرف باسم النقاط العشر. وللوصول إلى حالة "التوافق والتراضي"، فقد أُدرجت بنود وتفسيرات عن سلطةٍ وطنيةٍ مقاتلة، وعن أرضٍ يندحر عنها الاحتلال، وتكون قاعدةً ثوريةً لتحرير ما تبقّى من أرض فلسطين كلها. لكنّ الحقيقة المرّة كانت واضحة، فجميع تلك العبارات كانت مجرّد تجميل لعملية الانخراط في التسوية ما لبثت مساحيقه أن زالت وانمحت، وما مكث في الأرض كان الانجرار التدريجي باتجاه مشروع التسوية، وتقديم التنازلات المتتالية التي تجعل الخصم والوسيط يقبلان بنا في هذه العملية الوهمية، وتتنافى مع طبيعة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
قد يعتبر بعضهم أنّ ما تقوم به "حماس" لا يتعدّى مناورةً سياسيةً، قد تُجنّبها الضربات
المتوقعة والحروب والاجتياحات والمحاولات المتكرّرة لتصفية المقاومة في فلسطين وفي غزة تحديدًا. لكن غاب عن ذهنهم أنّ إقدام منظمة التحرير الفلسطينية على تقديم مثل تلك التنازلات لم يُجنّبها ضربات العدو، بل ربما تكثّفت عليها بهدف إضعافها وإجبارها على تقديم مزيدٍ منها. هل لنا أن نتذكّر أنّه بمجرد إطلاق برنامج النقاط العشر، اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، وتتالت الضربات والاجتياحات على الجنوب، وصولًا إلى إخراج المقاومة من بيروت، ومن ثمّ اغتيال رموزها وقادتها؟ ألم يحدث هذا كله في مناخ السعي نحو التسوية المتوهمّة؟ وهل لحركة حماس أن تستخلص من هذا درسًا؟ فمثل تلك المرونة لن تجنّبها حربًا، ولن تقيها من مؤامرة، بل سيزداد الضغط عليها من أجل انتزاع مزيد من التنازلات منها، كما سيُعطي هذا غطاءً لاتجاهات في داخلها أو قوى من خارجها لمزيدٍ من محاولات الانخراط في هذه العملية المزعومة.
تبقى نقطة تتعلّق بتوقيت إعلان الميثاق الذي يجري التداول حوله منذ زمن بعيد، لماذا الآن؟ أوَلم يكن من الأفضل تأجيل ذلك لتركيز الاهتمام على إضراب الأسرى، واستثمار حالة الوحدة الوطنية والتلاحم حول الأسرى وإضرابهم، وتحويل ذلك باتجاه انتفاضةٍ شعبية كبرى، أم أنّ الهدف منها الالتفاف على إنذارات الرئيس محمود عباس المتكرّرة لحركة حماس وقطاع غزة، وتحييد بعض الدول في الإقليم، أو استباق لقاء عباس- ترامب؟
في جميع الأحوال، فتح هذا الميثاق الباب أمام تأويلاتٍ متعدّدة له، ولعلّ الأيام المقبلة توضّح لنا بجلاء أي مسار ستعتمده "حماس" التي يقع عليها بشكل رئيس واجب الحفاظ على المقاومة ومشروعها في هذه المرحلة.
توافق وتراضٍ في الداخل ومع الخارج ليست مجرد جملة تُقال، فهي تعني، بوضوح، أنّ ثمّة آراء تؤيّد هذه التعديلات الجوهرية، بل وربما تدفع باتجاه أوسع مدىً فيها، وثمّة آراء أخرى تعارضها وتتمسّك، قدر استطاعتها، بموروثها القديم، وجاءت المحصلة توافقاً وتراضياً تحمل حلًا، أو لنقل تفسيرًا وتأويلًا لكلا الموقفين، يمكّن كلا منهما من الاستمرار بنهجه، وتطوير اتجاهه فيه.
وبعيدًا عن تفصيل بنود الميثاق كلها، إلّا أنّ الجدل يمتد أساسًا حول نقطتين، تتفرّع منهما البنود الأخرى؛ الأولى إعلان "حماس" أنّها حركة تحرّر وطني فلسطيني ذات مرجعية إسلامية، متجاهلة ما ورد في ميثاقها السابق بأنّها جناح من أجنحة الإخوان المسلمين، ولعلّها بذلك تحاول أن تتجنب سلبيات تلك العلاقة، في ظلّ الظروف الإقليمية السائدة، على المشروع الوطني
النقطة الثانية هي تلك التي تتحدّث عن قبول "حماس" الصيغة التوافقية الوطنية المشتركة (بحسب تعبيرها) الداعية إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، أي دولة فلسطينية في الضفة والقطاع. وهي بذلك توافق على أنّ هذا هو المشروع الوطني الفلسطيني المتوافق عليه في هذه المرحلة.
التأكيدات المتتالية، قبل هذا البند وبعده، حول تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ورفض اتفاقية أوسلو، وعدم التنازل عن أي جزءٍ من أرض فلسطين، ورفض أي بديلٍ عن تحرير فلسطين كاملة، إلى آخر هذه الديباجة، لا يُلغي قرار "حماس" بالانضمام إلى مشروع حلّ الدولتين. وهو البند الذي أثار اهتمام الدوائر المختلفة، واعتبر تطورًا في موقف الحركة، أمّا التعبيرات الأخرى المرتبطة بهذا البند، عن استمرار التمسّك بالثوابت، فإنّها تُعبّر عن حالة التراضي بين الآراء المختلفة، لكنّها لا تعكس، بأي حال، سياسةً عمليةً غير التي تضمنتها هذه الفقرة.
حول هذا الموضوع، تبرز ملاحظتان مهمّتان حول هذه السياسة؛ الأولى ينطبق عليها المثل الشعبي الدارج "راح على الحج والناس راجعة"، ذلك أنّ حلّ الدولتين قد تهاوى ومات، أو هو في مراحل النزع الأخيرة، وما عاد سوى شماعة تبرّر بها قيادات السلطة الفلسطينية استمرار بقائها في صدارة الموضوع الفلسطيني. فكان من الأجدى والأجدر أن تبادر حركة حماس في ميثاقها الجديد إلى المساهمة في صياغة مشروع وطني، يضمُّ الفلسطينيين كلهم في الضفة وقطاع غزة والمناطق المحتلة منذ عام 1948 والشتات، بدلًا من محاولة اللحاق بمشروعٍ تعدّ الآن مراسمه الجنائزية، ويسعى القائمون عليه إلى تحويله إلى بقايا كانتونات بصيغة هزيلة لحكم ذاتي محدود ملحق بما تروّجه الدعاية الصهيونية عن سلامٍ مع العرب يشكّل مدخلًا لحلّ (تصفية) القضية الفلسطينية.
النقطة الثانية هي عدم التعلّم من دروس التاريخ، ولا من الأمثال الشعبية التي يقول بعضها "اللي بجرّب المجرّب عقله مخرّب". لم تنسَ الذاكرة الفلسطينية، بعد ما جرى من حوار بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وسعي الأنظمة العربية إلى زجّ الفلسطينيين في التسوية السياسية المُتوهّمة. يومها اعتقد القادة الفلسطينيون أنّ دولةً في الضفة الغربية وقطاع غزة قد باتت قاب قوسين أو أدنى، وخرجوا علينا بمشروعٍ عُرف باسم النقاط العشر. وللوصول إلى حالة "التوافق والتراضي"، فقد أُدرجت بنود وتفسيرات عن سلطةٍ وطنيةٍ مقاتلة، وعن أرضٍ يندحر عنها الاحتلال، وتكون قاعدةً ثوريةً لتحرير ما تبقّى من أرض فلسطين كلها. لكنّ الحقيقة المرّة كانت واضحة، فجميع تلك العبارات كانت مجرّد تجميل لعملية الانخراط في التسوية ما لبثت مساحيقه أن زالت وانمحت، وما مكث في الأرض كان الانجرار التدريجي باتجاه مشروع التسوية، وتقديم التنازلات المتتالية التي تجعل الخصم والوسيط يقبلان بنا في هذه العملية الوهمية، وتتنافى مع طبيعة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
قد يعتبر بعضهم أنّ ما تقوم به "حماس" لا يتعدّى مناورةً سياسيةً، قد تُجنّبها الضربات
تبقى نقطة تتعلّق بتوقيت إعلان الميثاق الذي يجري التداول حوله منذ زمن بعيد، لماذا الآن؟ أوَلم يكن من الأفضل تأجيل ذلك لتركيز الاهتمام على إضراب الأسرى، واستثمار حالة الوحدة الوطنية والتلاحم حول الأسرى وإضرابهم، وتحويل ذلك باتجاه انتفاضةٍ شعبية كبرى، أم أنّ الهدف منها الالتفاف على إنذارات الرئيس محمود عباس المتكرّرة لحركة حماس وقطاع غزة، وتحييد بعض الدول في الإقليم، أو استباق لقاء عباس- ترامب؟
في جميع الأحوال، فتح هذا الميثاق الباب أمام تأويلاتٍ متعدّدة له، ولعلّ الأيام المقبلة توضّح لنا بجلاء أي مسار ستعتمده "حماس" التي يقع عليها بشكل رئيس واجب الحفاظ على المقاومة ومشروعها في هذه المرحلة.