15 أكتوبر 2024
ميدان التحرير صانع أم مصنوع في الثورة المصرية؟
على الرغم من أن الثورات تأتي مفاجئة وطارئة ومباغتة لأنظمة الحكم، وهذه إحدى أهم سماتها، فليس هناك ثورة تقوم في الفراغ، مهما بدت كأنها طارئة ومفاجئة. هناك عوامل موضوعية، وأخرى ذاتية، تجعل الثورة تندلع. ولا شك في أن هناك تحرّكات كبيرة أو صغيرة تسبق الثورة، تشكل تمريناً أولياً للثورة. وأماكن التمرين هذه هي التي يتم اختبار صلاحيتها لتكون الميدان الرئيسي للثورة، ولا يتم اكتشاف مثل هذا المكان، سوى بهذا التمرين، وبمحض المصادفة أيضاً، في لحظةٍ يتلاقى فيها الموضوعي والذاتي، ليشل السلطة الحاكمة تماماً. وعلى الرغم من عدم المعرفة المسبقة بمكان الثورة، إلا أنه يجب أن يتسم بمواصفاتٍ تجعله يلعب هذا الدور.
لذلك، ارتبطت الثورات بأماكن كانت ساحة رئيسية لها. ولكن، ما ماهية هذا الارتباط، وهل هو رمزي أم هناك عوامل موضوعية جعلت الثورات ترتبط بهذه الأماكن، بوصفها أماكن طبيعية لها، لا يصلح غيرها للقيام بالدور نفسه، وما الذي يميّز هذه الأماكن عن غيرها؟
إذا أخذنا النموذج المصري للثورة في ميدان التحرير، نرى عوامل موضوعية عديدة لعبت دورا في تفجير هذه الثورة، وهي وليدة السياسات التي اعتمدتها سلطة الرئيس حسني مبارك في إدارة مصر وسياسات الإفقار المتواصلة. يقال في العوامل الموضوعية كلامٌ كثير. ولكن، لماذا كان ميدان التحرير الحاضن الطبيعي لهذه الثورة التي أطاحت مبارك؟
الثورة لا يقوم بها الناشطون فقط، وإن كانوا هم الجزء الظاهر منها. الثورة يقوم بها ملايين الناس المجهولين الذين لا نرى صورهم، والذين عملوا بكل شجاعة على شلّ السلطات القمعية في كل مكان، هؤلاء هم الذين يصنعون الحدث الضخم الذي اسمه "ثورة". إنها في واحدٍ من تعريفاتها تخلي الجموع عن السلطة الحاكمة، وكسر حاجز الخوف اتجاهها، وإن كان هذا يبدأه قلة، لكنه لا يصبح ثورةً، حتى يستقطب الملايين بأفعال إيجابية أو سلبية في تأييد الثورة، وفي مواجهة السلطة.
يشرح آصف بيات في كتابه "الحياة سياسة ـ كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط"
الخصائص الاجتماعية التي يجب أن تملكها "شوارع الغضب". فهي أولاً، خليط من الملامح المكانية الاجتماعية العديدة، تشكل فضاءاتٍ يمكن أن تتجمع فيها الحشود المتحركّة بسرعةٍ ويسر، قبل أن تجبر على التفرّق. ثانياً، لهذه الأماكن أهمية رمزية تاريخياً، إما ذكريات للتمرد أو للنصر، حال ميدان التحرير في القاهرة، في ضوء مواقع قوة الدولة ورموزها. ثالثاً، بوصفها أماكن شبكات النقل وسيارات الأجرة ومحطات المترو، والتي تسهل وصول المشاركين المتحركين. وهي أماكن تتميز عن الأحياء المهمشة والمكتظة بالسكان، حيث يكون الاحتجاج في هذه الأماكن محدوداً ومحصوراً. أما شوارع الغضب فيجب أن تكون مفتوحةً، ومركزية الوصول إليها سهلة ومعروفة من الجميع. رابعاً، تحتاج هذه الأماكن خاصية المرونة بدرجةٍ كبيرةٍ من الأهمية، حيث تكون فضاءاتها قابلةً للمناورة، يمكن للمتظاهرين أن يهربوا من الشرطة، فضاء يمكن أن يكون مفتوحاً ومحاطاً بحواري ضيقة، ومحلات، ومنازل يمكن أن يلجا إليها الثوار. وأخيراً، فإن لشوارع الغضب، بصرف النظر عن إطارها المادي، اجتماعياتها الخاصة، ففيها يظهر التضامن، ويمتد الاحتجاج، وتنتشر المعلومات أبعد من المجال اللحظي الحالي. إن موقعا كميدان التحرير، والذي يشمل، في محيطه، على مقرّات متعدّدة للصحافة ومحطات التلفزيون، والفنادق الأجنبية، وسياح وصحافيين، ومحطات نقل الركاب، وشكل هذا المكان موقعاً نموذجيا للثوار.
نعم، شكل ميدان التحرير وسط القاهرة نموذج المكان المثالي للثورة، ليس فقط بسبب المواصفات التي يشرحها بيات لـ"شوارع الغضب"، بل هناك شعور مصري شعبي بملكية المكان (المكان العام)، وقد جاء هذا الحس من الارتباط المصري بـ"مجمع التحرير" تحديداً، على قدر الإذلال الذي تعرّضت له جموع المصريين في هذا المكان، بقدر ما أحدثوا ألفة مع المكان، ففي وقتٍ يشرف فندق سمير أميس الفخم على المجمع، فهو يتجاور مع كورنيش النيل الذي يشكّل مكان المتع المتواضعة للفقراء القاهريين، إنه تجاور المتناقضات القاهرية وتناقضها. يشعر المصري أن له حصة في الميادين، هي بيته الثاني، فالمصري "الغلبان" ببساطة يفترش ميدان التحرير، في انتظار معاملاته العالقة في مجمع التحرير. فعندما احتل الثوار ميدان التحرير، كان واحد من شعاراتهم الدالة "إحنا مش حنمشي.. هو يمشي (مبارك)". ولم يكن الشعار يحيل إلى ملكية الميدان فقط، بل أيضا إلى ملكية مصر، بوصفها تعود إلى الشباب الذي صنعوا ثورة الميدان. فاجأت الجموع السلطة التي لم تتوقع أن تحتلّ الميدان بهذه الأعداد الضخمة، كانت مطمئنةً إلى قوة وزارة الداخلية ومخابراتها وأمنها المركزي. هذا الاطمئنان الذي اعتبر أن كل تحرّكٍ يماثل التحركات المتواضعة لحركة كفاية، كان أحد الأسباب التي سهلت احتلال الميدان، فهذه الأعداد لم تتوقعها وزارة الداخلية وأجهزة الأمن.
شكل ميدان التحرير مكان التعبير عن الغضب، ومكان التغيير الذي استعصى طويلا في مصر. ولكن، بعد ثورة 25 يناير في مصر، أصبح للمكان دلالة رمزية كبيرة، ولم يعد هو نفسه الذي كان قبل الثورة. لذلك، كان على الانقلاب العسكري على الثورة، وعلى حكم جماعة الإخوان المسلمين، أن يحتلّ الميدان، وأن يأتي بالحشود هناك، على اعتبارها ثورة ثانية، تعطي الانقلاب شرعية الميدان، حتى لو كان انقلاباً على الثورة. منذ ذلك الوقت، يتعامل النظام المصري مع ميدان التحرير بحساسية مفرطة، وهناك قرار واضح على أعلى مستوى، بعدم السماح لأي تجمعٍ فيه. لذلك، يتعامل النظام بجديةٍ ورعبٍ مع أي دعوةٍ إلى التظاهر في ميدان التحرير، مهما كان الطرف الذي يدعو إليها متواضعاً، نجده يحشد قواتٍ غير مسبوقة في الميدان ومحيطه.
إذا كان النظام المصري يعتقد أن حصاره الصارم ميدان التحرير قادر على حصار الثورة يكون واهماً، فليس ميدان التحرير من صنع الثورة، الثوار هم من صنعوها. كان ميدان التحرير مكانها المناسب في عام 2011، ولكن على النظام أن يدرك أن الثورات لا تستنسخ بعضها. لذلك، عليه أن يبحث عن التهديد هذه المرة خارج ميدان التحرير. في النهاية، الثورة يصنعها الثوار، ولا تصنعها الميادين.
لذلك، ارتبطت الثورات بأماكن كانت ساحة رئيسية لها. ولكن، ما ماهية هذا الارتباط، وهل هو رمزي أم هناك عوامل موضوعية جعلت الثورات ترتبط بهذه الأماكن، بوصفها أماكن طبيعية لها، لا يصلح غيرها للقيام بالدور نفسه، وما الذي يميّز هذه الأماكن عن غيرها؟
إذا أخذنا النموذج المصري للثورة في ميدان التحرير، نرى عوامل موضوعية عديدة لعبت دورا في تفجير هذه الثورة، وهي وليدة السياسات التي اعتمدتها سلطة الرئيس حسني مبارك في إدارة مصر وسياسات الإفقار المتواصلة. يقال في العوامل الموضوعية كلامٌ كثير. ولكن، لماذا كان ميدان التحرير الحاضن الطبيعي لهذه الثورة التي أطاحت مبارك؟
الثورة لا يقوم بها الناشطون فقط، وإن كانوا هم الجزء الظاهر منها. الثورة يقوم بها ملايين الناس المجهولين الذين لا نرى صورهم، والذين عملوا بكل شجاعة على شلّ السلطات القمعية في كل مكان، هؤلاء هم الذين يصنعون الحدث الضخم الذي اسمه "ثورة". إنها في واحدٍ من تعريفاتها تخلي الجموع عن السلطة الحاكمة، وكسر حاجز الخوف اتجاهها، وإن كان هذا يبدأه قلة، لكنه لا يصبح ثورةً، حتى يستقطب الملايين بأفعال إيجابية أو سلبية في تأييد الثورة، وفي مواجهة السلطة.
يشرح آصف بيات في كتابه "الحياة سياسة ـ كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط"
نعم، شكل ميدان التحرير وسط القاهرة نموذج المكان المثالي للثورة، ليس فقط بسبب المواصفات التي يشرحها بيات لـ"شوارع الغضب"، بل هناك شعور مصري شعبي بملكية المكان (المكان العام)، وقد جاء هذا الحس من الارتباط المصري بـ"مجمع التحرير" تحديداً، على قدر الإذلال الذي تعرّضت له جموع المصريين في هذا المكان، بقدر ما أحدثوا ألفة مع المكان، ففي وقتٍ يشرف فندق سمير أميس الفخم على المجمع، فهو يتجاور مع كورنيش النيل الذي يشكّل مكان المتع المتواضعة للفقراء القاهريين، إنه تجاور المتناقضات القاهرية وتناقضها. يشعر المصري أن له حصة في الميادين، هي بيته الثاني، فالمصري "الغلبان" ببساطة يفترش ميدان التحرير، في انتظار معاملاته العالقة في مجمع التحرير. فعندما احتل الثوار ميدان التحرير، كان واحد من شعاراتهم الدالة "إحنا مش حنمشي.. هو يمشي (مبارك)". ولم يكن الشعار يحيل إلى ملكية الميدان فقط، بل أيضا إلى ملكية مصر، بوصفها تعود إلى الشباب الذي صنعوا ثورة الميدان. فاجأت الجموع السلطة التي لم تتوقع أن تحتلّ الميدان بهذه الأعداد الضخمة، كانت مطمئنةً إلى قوة وزارة الداخلية ومخابراتها وأمنها المركزي. هذا الاطمئنان الذي اعتبر أن كل تحرّكٍ يماثل التحركات المتواضعة لحركة كفاية، كان أحد الأسباب التي سهلت احتلال الميدان، فهذه الأعداد لم تتوقعها وزارة الداخلية وأجهزة الأمن.
شكل ميدان التحرير مكان التعبير عن الغضب، ومكان التغيير الذي استعصى طويلا في مصر. ولكن، بعد ثورة 25 يناير في مصر، أصبح للمكان دلالة رمزية كبيرة، ولم يعد هو نفسه الذي كان قبل الثورة. لذلك، كان على الانقلاب العسكري على الثورة، وعلى حكم جماعة الإخوان المسلمين، أن يحتلّ الميدان، وأن يأتي بالحشود هناك، على اعتبارها ثورة ثانية، تعطي الانقلاب شرعية الميدان، حتى لو كان انقلاباً على الثورة. منذ ذلك الوقت، يتعامل النظام المصري مع ميدان التحرير بحساسية مفرطة، وهناك قرار واضح على أعلى مستوى، بعدم السماح لأي تجمعٍ فيه. لذلك، يتعامل النظام بجديةٍ ورعبٍ مع أي دعوةٍ إلى التظاهر في ميدان التحرير، مهما كان الطرف الذي يدعو إليها متواضعاً، نجده يحشد قواتٍ غير مسبوقة في الميدان ومحيطه.
إذا كان النظام المصري يعتقد أن حصاره الصارم ميدان التحرير قادر على حصار الثورة يكون واهماً، فليس ميدان التحرير من صنع الثورة، الثوار هم من صنعوها. كان ميدان التحرير مكانها المناسب في عام 2011، ولكن على النظام أن يدرك أن الثورات لا تستنسخ بعضها. لذلك، عليه أن يبحث عن التهديد هذه المرة خارج ميدان التحرير. في النهاية، الثورة يصنعها الثوار، ولا تصنعها الميادين.