كتب النائب ميشال عون أولى عبارات خطاب القسم الرئاسي. يجهّز نفسه لاعتلاء منصة المجلس النيابي في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية. يبحث عن إجماع أو نصف إجماع سياسي يخوّله دخول قصر الرئاسة. لا يهمّه العدد ولا الصيغة، يعنيه فقط الرقم المطلوب لإحياء مشروع أو حلم مات سريرياً منذ عام 1990 على هدير الطائرات والدبابات السورية التي اجتاحت قصر بعبدا.
يعيش طموح الرئاسة في رأس عون منذ عقود. لم يخلخله المنفى الفرنسي ولا التركيبات الدولية والإقليمية التي أطاحته. بقي هذا الطموح ثابتاً في مكانه. دارت حوله المواقف وتبدّلت المواقع وتغيّرت التحالفات على أساسه. اصطفّ مع الغرب فهاجم سوريا وحزب الله وساهم في صياغة القرار الدولي 1559. ترك ذلك المحور، فـ"تفاهم" مع الحزب وغطّى النظام السوري وحربه ضد شعبه. يدفعه حلم الرئاسة اليوم إلى إعداد تركيبة جديدة تجمع كل المتناقضات، من واشنطن إلى طهران وموسكو، مروراً بالرياض ودمشق.
جمْع كل هذه الاضداد، يترجمه عون اليوم باتصالاته ولقاءاته مع كل الأطراف. يجتمع نواب التكتل صباحاً بزملائهم في كتلتي الوفاء للمقاومة (حزب الله) والتنمية والتحرير (حركة أمل التي يرأسها الرئيس نبيه بري). أما ليلاً فيستضيف السفير الأميركي دايفيد هيل. يتحرّك صهره، الوزير جبران باسيل، باتجاه السفارة السعودية فيَصدر بيان عن مسؤولي المملكة يؤكد فتح أبوابها أمام الجميع. ليزور بعدها الرابية (مقرّ إقامة عون)، السفير الإيراني غضنفر ركن آبادي. وقد سجّل خلال الأسابيع الخمسة الأخيرة أكثر من عشرين لقاءاً، مباشراً وغير مباشر، بين عون وهيل. وأكثر من عشرة اجتماعات بين باسيل ومسؤولين في السفارة السعودية. وكأنّ الجنرال بات محطة استقطاب لخصوم "الممانعة". ولضمان نجاح تعويذته الرئاسية، يخفف عون شيئاً فشيئأ من انخراطه والتزامه في فريق 8 آذار، أي التحالف مع حزب الله والرئيس نبيه بري وسواهم من حلفاء النظام السوري في لبنان.
الوسطي القوي
تتطلّب هذه التركيبة من عون ثلاثة عناوين، يحملها معه إلى اجتماعاته ويناقش فيها زائريه المحليين والعرب والأجانب. يريد إقناعهم بمشروعه الرئاسي الذي يرتكز أولاً على موقع الشخص "الوسطي". يريد إلغاء سجلّه السياسي الحافل في مساندة حزب الله ودعمه وتغطيته لأحداث السابع من مايو/أيار 2008، تاريخ تحرُّك حزب الله عسكرياً في بيروت لإسقاط حكومة سعد الحريري. يرغب الرجل بالتعتيم على سجالات "الإبراء والافتراء" وجولات التخوين والاتهامات مع تيار المستقبل. كأن كل هذا يمكن ان يُلغى بـ"شطبة قلم"، أم أنّ لبنان فعلاً بلد "الغرائب والعجائب" السياسية. يضع نفسه في موقع "الحليف المدلّل" لحارة حريك (مقرّ قيادة الحزب)، فيستجيب له الحزب ويسانده بلا تردّد. يقول لخصوم الممانعة إنّه "الرجل القادر على التواصل مع حزب الله وإقناعه بأي شيء"، فيلعب عون على حبل دعم حزب الله الزائد له من جهة، وحبل الرغبة الغربية في ترويض الحزب من جهة أخرى.
وكي لا يشبه غيره من الوسطيين، كالرئيسين ميشال سليمان وتمام سلام أو النائب وليد جنبلاط، يضيف عون إلى عبارة الوسطي وصف "القوي". فيصبح "الوسطي القوي"، فيتسلّح بكتلة تضمّ 27 نائباً في البرلمان (الكتلة النيابية الأكبر مسيحياً)، ويتمثّل بثلاثة وزراء في الحكومة، ويقدّم الدراسات والإحصاءات الانتخابية التي تضعه في مقدمة الزعماء المسيحيين على المستوى الشعبي.
مكافحة الإرهاب
ويشكّل ملف الإرهاب مادة دسمة على أجندة الجنرال. فبعد تحوّل مكافحة الإرهاب إلى مطلب دولي وعربي (سعودي تحديداً)، يتحدث عون بحسب زائريه عن مدى خطورة هذا الملف وخطورة اختراق الإرهابيين للأراضي اللبنانية. يستمع زائروه من الأجانب باهتمام إلى حديثه ومشروعه. يستفيض بالحديث عن كيفية المحافظة على هوية اللبنانيين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، وإبعادهم عن كل أشكال التطرّف. يضيف إلى ذلك تشديده على ضرورة "المحافظة على المعتدلين السنّة" في لبنان. يوحي عون بأنه لم يعد يكنّ الضغينة لخصمه الأول، تيار المستقبل. بات طموحه الرئيسي يدفعه إلى القول "أنا المسيحي الأقوى وبالتالي الأفضل لرئاسة الجمهورية، وسعد الحريري الأقوى سنياً يجب ان يكون رئيساً للحكومة".
صلة الوصل
من هذا الموقع الوسطي، ينتقل عون للحديث أمام زائريه عن قدرته المستقبلية على تأمين خيوط التواصل بين كل الأطراف اللبنانية المتنازعة. يتحدّث بعض المقربين منه عن كونه "الزعيم الوحيد الذي لم ينفذ جرائم قتل وعمليات إعدام في الحرب الأهلية". يتمسّكون بالبزة العسكرية التي لبسها طوال تلك السنوات، وبحفاظه على خيار الدولة اللبنانية ومؤسساتها الشرعية. وانطلاقاً من هذه الصفة، يقولون إنه الأفضل "ليشكل جسر التواصل بين حزب الله وتيار المستقبل وكل المتخاصمين المحليين". جهّز عون ماكينات التواصل، ومن المنتظر أن يعقد عدد من النواب المقرّبين منه لقاءات سياسية تجمعهم بـ"المستقبل" والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الكتائب.
أعدّ عون ومن معه هذه النقلة النوعية في الموقف والخطاب منذ ما يزيد عن سبعة أشهر، إذ بدأ التغيير داخل التيار الوطني الحرّ مع موعد الخلوة التنظيمية التي عقدت في اكتوبر/تشرين الأول 2013. يومها وضع الجنرال خطة الوصول إلى الرئاسة، وانطلق بمشروع الانفتاح على كل الكتل النيابية وإشاعة أجواء الحوار على العلاقات مع جميع الأطراف السياسية.
هاجس الخسارة
حصل كل هذا التعديل على مواقف عون من دون الإعلان الرسمي عن ترشّحه للرئاسة. من يعرف عون جيّداً، يفهم سبب كل هذا التردّد في إظهار أي رغبة رسمية لذلك، رغم شوقه الشخصي وحلمه الأزلي للعودة إلى قصر بعبدا. عقل عون عسكري، والجنرال يملك هاجس الخسارة أو الفشل في أي مهمة. حتى أنّ بعض المقربين منه يؤكدون أنه "لا يقتنع غالباً بأنه خسر أو أخطأ". هكذا كان عام 1990 في بعبدا، ولا يزال كذلك اليوم. منذ 24 عاماً، قبل ساعات من دخول الجيش السوري إلى القصر الرئاسي، استمرّ عون في الحرب، وفي تحفيز جنوده. سطّر خطابات "المقاومة" والتضحية والدفاع عن الشرعية. لم يكن مقتنعاً بأنه هو والجيش و"أنصاره" على أبواب كارثة، إلى أن حلّت المجزرة ودخلت قوات الرئيس الراحل حافظ الأسد، فاضطر للهروب لفرنسا، تاركاً وراءه قيادته وعسكره وعائلته.
ومنذ ذلك اليوم، يحمل عون في عقله وقلبه هاجساً اسمه "العائلة". يضعف أمام بناته الثلاث ويعجز عن رفض أي طلب لهنّ. ابنته ميراي، زوجة روي الهاشم (رئيس مجلس إدارة تلفزيون "أو تي في" التابع للتيار الوطني الحر). كلودين، زوجة العميد شامل روكز قائد فوج المغاوير في الجيش. وشانتال، زوجة الوزير جبران باسيل الصهر الأقرب إلى عون. تنعكس هذه العلاقة على الأجواء المحيطة بالجنرال وبتنظيم التيار الوطني الحرّ. فهو متّهم من بعض الذين خرجوا من التيار بـ"شخصنة" كل شيء، وبتكريس سيطرة عائلته على كل المفاصل التنظيمية للتيار. يقولون إنه لم يحسن إدارة هذا الحزب، على الرغم من التماسك الملحوظ في جمهوره منذ 2005، وقدرته على إقناع من حوله بخياراته مهما اختلفت، كالانتقال من ساحة 14 آذار إلى الرابية وخوض الانتخابات النيابية وحيداً.، أو كتوقيع "ورقة التفاهم" مع حزب الله، ومن ثم تكريسه التحالف مع قوى 8 آذار. حافظ على هذا الجمهور وحوّله من معادٍ لمنطق مقاومة إسرائيل، إلى داعم أول لحزب الله. ومن خصم شرس لنظام البعث السوري، إلى حليف له.
تمكّن عون من فرض سيطرته على الجمهور المسيحي، إلا أنه لم ينجح حتى الساعة في إقرار نظام واضح لتياره يضمن فيه استمرارية هذا التنظيم وأسسه. ثمة مَن يقول إنه فشل في إدارة حزب، فكيف يمكن ائتمانه على إدارة بلد؟ لا يجد جمهور التيار نفسه معنياً بهذا السؤال أصلاً، ويصرّ على كونه الرجل "العنيد" القادر على إحداث الفرق في الجمهورية. الجنرال، أطفاً شمعته التاسعة والسبعين في فبراير/ شباط الماضي. ينتظر موعد انتخابات رئاسة الجمهورية في مايو/ أيار المقبل ويشعر بأنّ موقع الرئاسة بات قاب قوسين او أدنى منه. يعدّ نفسه لتسلّم كرسي الرئاسة، حتى ولو جاء ذلك على يد مجلس نيابي مُمدّد له، وخاض عون بوجهه معركة "لا للتمديد نعم للدستور". يُعدّ نفسه لتلاوة خطاب القسم الذي لا يمكن إلا أن يستهلّه بعبارة "يا شعب لبنان العظيم".