يمرّ الشعب الفلسطيني في حالة من التفكك السياسي، التي من مظاهرها تعدّد المرجعيات، وتعدّد سلطة القرار، وشروخ في التمثيل، وتعارض في الأهداف والاستراتيجيات، والافتقار إلى هدف مركزي يحظى بموافقة الأكثرية المطلقة من القوى السياسية والشعب.
وإذا ما انتقلنا من العناوين إلى التوضيح، سنجد أمامنا انقساماً في الحركة السياسية الوطنية بين الاتجاهات الإسلامية ومركزها حركة "حماس" من جهة، و"منظمة التحرير" – مع وجود تباينات في صفوفها – ومركزها حركة "فتح" من الجهة الأخرى. ولكل قطب في هذه الثنائية برنامجه وسياساته المتعارضة مع برنامج وسياسات الآخر. فليست للاتجاهات الإسلامية علاقة بالمفاوضات وبالاتفاقات الناجمة عنها، ولا بالسياسة الرسمية للمنظمة والقرار الرسمي. وبالمثل ليست للمنظمة علاقة بقرار الحرب والتهدئة وبالمقاومة التي تقودها "حماس". والعلاقة مرتبكة، أو بالبلدي "مغمغمة"، مع الاتجاه القومي - المرتبط بالنظام السوري - الذي لا يزال ممثلاً في مؤسسات المنظمة في وضعية "الحاضر الغائب" على حد سواء.
يتأثر القرار الرسمي للمنظمة بالموقف الرسمي العربي ومراكزه القوية وبالضغوط والتدخلات الأميركية والإسرائيلية. ويتأثر قرار القوى الإسلامية بالمراكز الإسلامية والإقليمية. ويجوز القول إن مستوى التأثر والتدخلات يمس باستقلالية القرار السياسي، الذي من المفترض أن يكون نابعاً من المصالح الوطنية العليا للشعب قبل كل اعتبارات أخرى.
في مجال التمثيل، فإن المنظمة لا تزال الممثل الشرعي والوحيد رسمياً على صعيد دولي وعربي وإقليمي وفلسطيني. غير أن التمثيل الشعبي أخذ بالتخلخل والضعف والتراجع منذ عقدين، محدثا المزيد من التفكك.
في هذا المجال، كان لإخفاق برنامج المنظمة (و"فتح" باعتبارها الاتجاه المركزي) وإخفاق نموذج السلطة إداريا ًووظيفياً وديموقراطياً، دور قوي وملموس في تفكيك الروابط بين المؤسسات التمثيلية والقواعد الشعبية العريضة، بل إن نتائج اتفاق أوسلو المأساوية التي عمقت السيطرة الكولونيالية الإسرائيلية، وقوضت مقومات الدولة الفلسطينية، وفصلت عملياً بين الداخل وبين الخارج، وهمشت دور المنظمة لصالح السلطة المنبثقة عن الاتفاق، زادت من عوامل التفكك والانقسام والبحث عن بدائل.
ليس هذا وحسب، بل أيضاً بقيت مؤسسات المنظمة قبل أوسلو وبعده على حالها، ولم يجر أي تطوير أو إصلاح يذكر على المجلس الوطني والمجلس المركزي والصندوق القومي واللجنة التنفيذية ودوائرها. بقي نظام "الكوتا"- المحاصصة الفصائلية - الذي ثَبَّتَ التمثيل في المؤسسة بمعزل عن تراجع أو صعود التنظيمات، وبمعزل عن استمرار أهلية الرموز المستقلة. ولم تؤخذ في الاعتبار العلاقة بين التغيير الهائل في البنية الديموغرافية في المخيمات والقرى والأحياء الشعبية في المدن، وبين ضرورة تطوير المؤسسة التمثيلية وامتداداتها القاعدية، كي تستطيع تلبية الاحتياجات وأبسط الحقوق ومقومات الصمود والوجود الآمن.
فعندما تعرض مصير التجمعات الفلسطينية في العراق وليبيا وسورية ولبنان - نهر البارد - إلى تهديد خطير بمستوى "نكبات جديدة"، وقفت المنظمة ومؤسساتها عاجزة عن تأمين الحماية وعن إغاثة المنكوبين والمهددين في حياتهم واستقرارهم. وبقيت علاقة المنظمة مع جزء أساسي من الشعب الفلسطيني في الأردن ملتبسة من زاوية التمثيل والشراكة.
الوضع كان مختلفًا
كان الوضع مختلفا إبان انطلاقة الثورة والصعود الوطني، ففي ذلك الزمن الجميل امتلكت المنظمة ميثاقاً (عقداً وطنيّاً) وبرنامجاً وهدفاً وطنياً مركزياً توحد على أساسه الشعب في مختلف أماكن تواجده. وأهداف التحرير والعودة وإقامة الدولة الديموقراطية العلمانية أشركت مكونات الشعب في النضال، في إطار هوية وطنية جامعة، ارتقت بفعل النضال المشترك إلى مستوى من الكيانية. وبفعل هذا الإنجاز استمرت الوحدة الوطنية.
وبقي التمثيل في حالة من الانسجام والتناغم، حتى عندما أُدخل التعديل على البرنامج الوطني وأصبح الهدف إقامة دولة في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين – تطبيق القرار 194، وتحقيق المساواة للشعب الفلسطيني في مناطق 48. واستمرت الوحدة الوطنية لأن كل طرف من المكونات وجد مصالحه في الأهداف المطروحة، ولم يلمس تناقضاً وتعارضاً ما بين المصالح الخاصة والمشتركة.
وكان الاعتقاد السائد أن تلك الأهداف مترابطة ومكملة لبعضها بعضاً، ومنسجمة مع مبدأ حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. لكن اتفاق أوسلو والمواقف الإسرائيلية العدمية بددت ذلك الاعتقاد، ودفعت الأوضاع إلى النقيض.
كان من المفترض بصعود الإسلام السياسي، ممثلًا بحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" منذ أواخر ثمانينيات القرن الفائت، أن ينقله إلى موقع الاتجاه المركزي في المنظمة ويقود المسيرة، كما حدث أن انتقلت حركة "فتح في أواخر الستينيات إلى قيادة المنظمة. الانتقال كان يعني إكمال المسار الوطني والمراكمة على الإنجازات والمكتسبات، التي أحرزها النضال الوطني وتطويرها والحفاظ على شبكة العلاقات والتحالفات، وتفادي الأخطاء والاختلالات.
لم يحدث ذلك لسببين: الأول، موقف الإسلام السياسي، الذي لم يعترف بالإرث التاريخي للحركة الوطنية، لم ير الإنجاز، ولا صلاحية البنية التحتية الجسم القاعدي الحي. فقط رأى الإخفاق والفساد وبيروقراطية النخبة من فوق. وبهذا ظلت حركة "حماس" أمينة على تراث الإسلام السياسي في العمل بشكل مواز للحركة الوطنية، بعيداً عن الشراكة بمعناها الجبهوي (جبهة وطنية متحدة تتأسس على قواسم وطنية مشتركة).
وهكذا لعب البعد الإيديولوجي الديني دوراً محفزاً على الالتزام بمسارٍ موازٍ، وبالعمل المنفرد بمعزل عن المسار الآخر، الذي تمتع بنفوذ كبير وبشبكة علاقات واسعة. والبعد الإيديولوجي الذي يشمل كل الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي، عزز موقف حماس في الابتعاد الفعلي عن الشراكة والعمل الجبهوي، والامتناع عن الإقرار بالتعدد المتكافئ سياسياً وثقافياً ودينياً. وللإنصاف فإن النظام الشمولي الرافض للتعدد لا يقتصر على الإسلام السياسي، فهناك أنظمة شمولية قومية ويسارية، لكن النظام الإسلامي يصبح أشد تفرداً عندما يعتقد أنه نظام رباني يستمد تفويضه من السماء.
والسبب الثاني يعود إلى الرؤية الفئوية لدى اتجاهات نافذة في حركة فتح اعتقدت أنها الحزب الحاكم والقيادة الدائمة إلى ما لا نهاية، مدفوعة بالمصالح الخاصة التي تكونت من خلال سيطرتها طويلة الأمد على المنظمة والسلطة.
الحاجة إلى ميثاق مُطَوَّر
إزاء هذا الوضع الفلسطيني الشائك، الذي يغصّ بالتناقض، وأخفقت معه كل مساعي رأب الصدع وإنهاء الانقسام وإنجاز الوحدة الوطنية، ثمة حاجة وضرورة لبلورة عِقْد وطني اجتماعي مستنبط من حاجة ومصالح الشعب في مختلف أماكن تواجده، ذلك العقد هو عبارة عن ميثاق مُطَوَّر يشكل مرجعية وناظماً للنضال المشترك للقوى السياسية والكفاءات والنخب الثقافية كافة.
ويُفترض بهذا العقد أن يتضمن ما يلي:
وطنياً وسياسياً، وجود مركز فلسطيني شرعي ومعترف به (دولة) يتولى الدفاع عن حقوق الفلسطينيين أينما كانوا، ويعيد بناء الكيان والمجتمع الطبيعي الفلسطيني القابل للتطور، وهو مسألة ضرورية ومركزية. ويستدعي وجود هذا المركز تقديمه كهدف سياسي مركزي مشترك قابل للتحقيق في المدى القريب والمتوسط والمنظور وغالباً ما يقترن بموازين القوى السياسية والاقتصادية والنضالية القائمة والمحتملة.
وأمامنا أربعة عناوين لأهداف مختلف عليها. الأول، إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع عاصمتها القدس. الثاني، إقامة دولة إسلامية على أرض فلسطين التاريخية، أو اعتبار فلسطين أرض وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن أي شبر منها. الثالث، إقامة دولة فلسطينية علمانية على أرض فلسطين التاريخية. الرابع، اعتماد الدولة الواحدة ثنائية القومية أو دولة لكل مواطنيها. أعتقد أن الهدف الأول هو المرشح الأوفر حظًا كي يكون هدفاً مشتركاً، قابلاً للتحقيق بالنضال المشترك. ولا يعقل أن تُعتمد أهداف غير قابلة للتحقيق وتتحول إلى حلم ويوتوبيا منفصلين عن الزمان والمكان.
ديمقراطياً، اعتماد قواعد قانونية مستمدة من شرعة حقوق الإنسان، ومنظومة القوانين الدولية الخاصة بالمرأة والطفل، والقانون الدولي - ميثاق الأمم المتحدة ومعاهدة لاهاي واتفاقيات جنيف الرابعة - وقرارات الشرعية الدولية الخاصة بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. والإقرار بمدنية الدولة والسلطة وبمدنية القيادة (مركز المنظمة) وبالتبادل السلمي للسلطة وقيادة المنظمة، كبديل لاستئثار التنظيم الواحد بالسلطة إلى ما لا نهاية، وكبديل للدولة الدينية والقيادة الدينية الحاكمة بأمر الله.
دينياً، الانفصال عن الفكر الديني التكفيري والثقافة التعصبية المنغلقة، اللذين انتشرا وتغلغلا وسط الشعوب العربية، بما في ذلك الشعب الفلسطيني، وأفضيا إلى نتائج مأساوية كانبثاق تنظيمات إرهابية، مثل القاعدة وداعش والنصرة ومن لف لفها. وفي هذا المجال فإن منع وتجريم التكفير، الذي انتشر واستخدم من قبل رجال دين وقوى وتنظيمات دينية في فلسطين، يكتسب أهمية فائقة للحفاظ على السلم الأهلي وعلى وحدة المجتمع وتطوره. وسيكون فصل الدين عن السياسة والدولة ومناهج التعليم هو الوضع الأمثل.
عندما يتم اعتماد عقد وطني اجتماعي ويتحول كمرجعية وناظم للنضال والبناء المشترك، تصبح الوحدة الوطنية والمجتمعية قابلة للتحقيق، ويصبح صعود أي اتجاه سياسي لسدة السلطة والقيادة ملزماً بالقواعد. وعندها لا خوف إذا ما صعدت "حماس" وهبطت "فتح" وبالعكس. وبالمثل لا خوف من صعود اليسار وهبوط اليمين وبالعكس. فدعونا نبحث عن هذا المشترك ونوجده، كما فعل ذلك الأشقاء التونسيون.
(كاتب وباحث فلسطيني/ رام الله)
اقرأ أيضاً: من حركات التحرر إلى حملات المقاطعة