أحلام، رغبات، مطالب بالحرية والكرامة، نزلت إلى شوارع الحواضر العربية محمولة بحناجر وسواعد شباب أوطان عَمَرَ الاستبداد في جنباتها قصوراً اعتقد بأبديتها. ومن منبت هذا الاعتقاد، وإيغال منظومة الاستبداد في لاشرعيتها، كان رحيل بعض المخلوعين سريعاً، بينما طال مكوث بعض من شركائهم المستبدين، حتى بدا رحيلهم مستحيلا، ودفع إلى امتشاق بنادق تعددت مشاربها لأجل غاية الخلاص، خلاص من قهر هؤلاء، من سطوتهم، من سجونهم، ومن ماكينة الطرد إلى المهجر التي لم يوقفوا عسفها بشباب بلدانهم يوما.
تعدد الجدل في تناول الظاهرة، وأي ظاهرة حين يتحول الشباب إلى النقيض، اجتماعيا ومنهجيا وفكريا، إذ ارتمى البعض في أحضان منظمات وتشكيلات وكيانات أعادت تخليق وإنتاج نفسها، وراكمت تجارب غيرها في حروب الآخرين، واستنبتت جذورا لها من شركاء جرائم اختلف مكانها وزمانها وبعض ظروفها، لكن لم يختلف عطشها للدماء الشابة، ولا إلى أكبر قدر من تغيب أذهانهم إلا عن جنة السماء، وتحضر حماستهم في ميادين القتال، التي أريد لها أن تحتل أمكنة ساحات الحرية، ولم يتوقف تغول هذه التنظيمات وشراهتها في فرض الهيمنة، وهي التي تدعي حضورها بديلا أو ردا على هيمنة أنظمة سلطوية قهرية، بينما جل ما قدمته وتقدمه وتعد به، ما هو الا استبداد مغلف، وقمع صلف يخاطب بعض الغرائز العنفية، وبعض تأويل لموروث ديني أسيء له كما أسيء استخدامه، ليشكل دعامة أيديولوجية تسوغ لهؤلاء ما اختاروه على طريق فرض ذواتهم ورؤاهم هم، لا ما أنزل من سماء الخالق، ولا ما نبهت إليه شرائع الديانات، كما لا ما طلبته رغبات وتصورات الشعوب عن مستقبلها ومآلات ترابها.
وما آل إليه الحال في غير بلد عربي، على وجه الخصوص في بلدان المشرق العربي، وإن كان أكثرها العراق وسورية، حيث استطاب البعض اجتراح تقسيمات تخصه، كأن ما يفرض خارجيا على المشرق لا يكفي، وفق شرائط من الحكم الطائفي التمييزي التي ينافح عن استمرار وجودها، كأنها لم تقتل ولم تعتقل ولم.. ولم.. مُدخلا إلى المخيال الاستبدادي بلدانا جديدة لم يُسمع عنها قبلاً، كـ"سوراقيا" مثلاً، حيث في هذين البلدين دفع التعنت و"نشفان المخ" الديكتاتوري حين جاء مرافقا لتساهل حلفاء الاستبداد مع بنى الإرهاب، وأبرزها تنظيم "داعش" في مهده، لكي يكون رفشاً يحفر به مقابر جماعية لمن لم يصل الكيماوي إلى أنوفهم، ولمن لم يتوقفوا يوماً عن القول "نحن ضد الطائفية" و"يسقط نظام الاستبداد"، إنما يدل على أن ثورات الشعوب العربية مثلت صخرة صلبة في وجه الثالوث المقيت (التدخل الأجنبي، الاستبداد، الإرهاب).
ولأن حراك الشعوب العربية أماط اللثام عن وجوه تعفن خطابها "الممانع" لرغبات الشعوب وحريتها. ولأن هذه الثورات جاءت بوعد الديمقراطية وإمكانية الدولة التي تكون لمواطنيها، ولأنها مهدت وأبدت استعدادا لتكون الفرصة الوحيدة أمام كيانات الاستبداد لتعتذر من التاريخ ومن دماء أسالتها طويلاً ومن أرواح شباب أخفتها في دهاليز عتمتها السيكوباتية، لتتحول بل لتنحل لصالح بناء كيانات سياسية حديثة وديمقراطية، لم يرق هذا كله للمعتقدين بأبدية الجلوس في أبراج قلاعهم المسندة بشبكة مستبدين إقليميين ودوليين، فنكأوا الجرح ليمتد نزيف الشباب العربي إلى أحضان منظمات الموت.
وربما لأن الثورات العربية جاءت صادقة، بريئة، غير مصابة بلوثة الأيديولوجيا، وإن أريد لها ذلك من غير طرف، وجاء حضورها في قلوب الناس بدون تصورات حزبية سياسية لطبيعة المرحلة المقبلة، وبالاستغناء عن يوتوبيا وتنظيرات الأقطاب السياسية الحزبية، ولم تكن عينها على الحكم وأدوات السلطة، بقدر ما حلمت بتحرير هذه الأدوات عبر الإمساك بيدها على طريق العدالة، فإن هذا سهّل أو فتح الباب أمام المتساهلين مع الإرهاب والمريدين له حجة وبرهانا باطلا يسوقونه على ثورات الشعوب بهدف تجريمها.