نصر حامد أبو زيد.. تمجيدُ التمرّد كيفما اتفق!

09 يوليو 2015
بدا لي الرّجلُ أيضاً متواضع التحصيل (فرانس برس)
+ الخط -
منذ أيام مرّت ذكرى وفاة نصر حامد أبوزيد، أحيا عددٌ لا بأس به من المثقفين ذكرى الرجل بعد خمس سنوات من رحيله، استُحضر الرّجلُ كما العادة: مفكّراً شجاعاً متنوّراً، تحدّى جبروت المشايخ التقليديين، وتقحّم حِمى رجال الدّين، وحطّم تابوهات ما سبقه إلى تحطيمها أحدٌ في العالمين! وهو في ذلك كله يصدرُ عن تبحّرٍ في العلم، وعُمقٍ في النظر والتأمّل!

هكذا قَدّم الرّجلَ غالبُ الذين تناولوه في ذكراه الأخيرة، إلا أصواتاً حييةً خافتة، نبّهَتْ بحذرٍ شديد إلى أنّ: "فِكر أبو زيد جزء من تاريخ الأفكار وهو بطبيعته ظني مثل التراث الذي ربطه بسياقه، وإضفاء القداسة على أفكاره - كإضفائها على عقائد التراث - هِنَةٌ"*.

صدفةً تعرّفتُ إلى نصر حامد أبو زيد، تحديداً سنة 2008، كنتُ شرعتُ بكتابة رسالتي الماجستير بقسم الحديث الشريف في الجامعة الإسلامية، بعنوان: "أصول الحديث عن الإمام الشافعي"، ووقعتُ على كتاب: "الإمام الشافعيّ، وتأسيس الأيديولوجية الوسطيّة" له، حمّلتُ الكتاب من الإنترنت يومها، وانطلقتُ في قراءته من دون أي خلفيّاتٍ مسبقةٍ عن مؤلّفه، والصراع الذي دار حوله بسبب هذا الكتاب!


أعترفُ أن الطرح أثارني بدايةً، غير أن الرجل نفسه لم يقنعني! ثمة أخطاء في النحو والتعبير، لا تليقُ بكاتبٍ، فضلاً أن يكون حائزاً على أعلى الدرجات في تخصص اللغة العربيّة، حاولتُ التبرير بدايةً بعزو الأخطاء إلى الطابع، غير أنّ قدراً لا بأس به لا يطرقه هذا الاحتمال، مثل تعدية الفعل اللازم، أو غير ذلك مما يستحيلُ أن يكون الخطأ فيه من جهة الطابع! (وقد عملتُ في مجال التدقيق اللغوي سنوات، وأزعمُ أنّ لديّ بعض الخبرة في تمييز ذلك)!

بدا لي الرّجلُ أيضاً متواضع التحصيل، ضئيل الاطّلاع، متعجّلاً في البحث والنقل! ولم يتأكد لي ذلك بقدر ما تأكّد حين دخل دائرة علم الحديث، حين طرح تساؤلات تقريرّية تدلُّ على ضحالةٍ علميّةٍ عجيبة! منها تساؤُله عن سبب ترتيب "مُسند الشّافعيّ" على الأبواب، على الرغم من أنّه "مُسند" ينبغي عليه أن يكون مرتّباً على الصحابة! والحقيقة أنني لم أتمالك نفسي من الضّحك حين قرأتُ هذا التساؤل، ومحاولة الرجل أن يبني عليه شيئاً!

الرجلُ كان يخلطُ كثيراً، تخليطاتٍ بقيت حتى في الطبعات المتأخرة من الكتاب، مثل قوله: سقيفة بني سعد! يقصد: سقيفة بني ساعدة، وقد دخله الخلط من جهة أنّ الرجل الذي اقترحت له البيعة في السقيفة كان سعد بن عبادة! وأمثالُ هذا الخلط كثيرة عند الرجل، غير أنّه بلغ ذروته حين أخطأ خطأ غير مغتفرٍ في نسب الإمام الشافعيّ، الرجل الذي يدور حوله الكتاب، وتحتلُّ مسألة نسبه القُرشيّ منزلة غير هيّنة في البحث، حين نسبه السيّد أبو زيد إلى "هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف"، ونقل ذلك عن الربيع بن سليمان المُراديّ؛ فصار الخطأ بذلك اثنين!!

هذا وإنّ من المعلوم لأقلّ مطّلعٍ على سيرة الشافعيّ، أنّه من بني المُطلب لا من بني هاشم! وللنسب الهاشميّ أهميّةٌ كبيرة يعرفُها صغارُ الباحثين في الأنساب، ولا أدري كيف يقع "مفكّرٌ كبير" في مثل هذا الخطأ، في مسألةٍ هي محورُ كتابه، دندن الرّجلُ حولها كثيراً، وبنى عليها أكثر! وسرُّ خطئه هنا، هو الخلطُ بين عبد المطلب بن هاشم، وبين المطلب بن عبد مناف! فلفّق هنا اسم: "هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف"، وهو رجلٌ لا وجود له في غير كتاب أبو زيد هذا!!

لا شيء يُفسّر ما حازه "أبو زيد" من ألقاب التفخيم والتعظيم والتبجيل، وأفكاره من المديح والتقديس، إلا ردّة الفعل على ما أثاره حوله العلماء التقليديّون، والاتهامات التي أطلقوها بحقّه، والمظلوميّة التي بلغت بالرجل حدّ تطليق زوجته منه بحكم محكمة، ما تسبب في ما بعدُ بنفيٍ طوعيٍّ له من موطنه إلى أوروبّا، حيثُ عاش البقيّة الباقية من حياته.


كانت ردّة فعل "المشايخ" حينها مبالغاً فيها، خاصّةً أنّ الرجل - على جرأته - كان مسالماً مفرطاً في التهذيب، وحريصاً - بخلاف غيره - على تجنّب اللغة المستفزّة للمشاعر الدينيّة، وإنهم - إذ وصفوا الرجل بالجهل، وطرحه بالضعف - كان خيراً أن تكون ردّة فعلهم تستقيمُ مع المستوى الذي ادّعوه على الرجل، والذي أتّفق معهم فيه!

وقد كانت هذه طريقةً معتمدةً لدى أسلافهم، والذين كانوا أحكم وأوعى وأذكى حين قال قائلُهم: "إذ الإعراض عن القول المطّرح أحرى، لإماتته، وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهاً للجُهّال عليه"!**

وقد لقيت ردّة الفعل - المبالغ فيها كما أسلفنا -، ردّات فعلٍ أكبر، تخطّت التضامن والدفاع إلى التأييد حدّ التقديس!

الحقيقة أنّ ثمة رغبة جامحة لدى تيّارٍ عريضٍ من المثقّفين في العالم العربيّ، في الاصطفاف إلى جوار "ضحيّة التكفير"، والمبالغة في الإشادة به، ووصفه بالتحرر والتنوّر والعُمق والفهم، ولا تكونُ هذه الرغبة المحمومة في الدفاع ناشئةً بالضرورة عن تعاطفٍ إنسانيّ، وانحيازٍ لحُرّية التعبير، بقدر ما هي صورة من صور رفض الخطاب الدينيّ التقليدي، وتعبير عن كراهيةٍ لمعسكره! وفي ظلال ذلك ينزوي البحث عن الحقائق العلميّة، والموضوعية في المناقشة والاستدلال بعيداً بعيداً، ويُصبح التوصّل إلى الصواب في المسألة آخر همّ الفريق المصفّق للتمرّد المقموع كيفما اتّفق!

إنّ الوقوف في وجه القمع الفكري، وضدّ محاكمة ذوي الرأي، قيمةٌ أكبرُ من أن نستدلّ لشرفها، ورفعة مقام من يتصدّرُ لها، غير أنّه لا يعني القفز على العلم، وغضّ الطرف عن الحقيقة، وإنّه لأحرى بمن لم يحابِ قداسة المُقدّس فعلاً، ألا يُقدّس وجهات النظر التي تستهويه، وإنّه لمن الإسفاف مدحُ كلّ جريء، خاصّةً إذا لم يمتلك شيئاً غير الجُرأة! ومع تزايد المتجرّئين والمُدّعين هذه الأيام، أظنّ وضع حدٍ لمثل هذا صار أكثر ضرورية.


*من مقالة "نصر حامد أبو زيد، دفاعاً عن المجاز ووجوهه"، لنجم الدين خلف الله، منشورة في العربي الجديد، بتاريخ: 5 يوليو 2015.


** مقدّمة صحيح مسلم.

(فلسطين)

دلالات
المساهمون