12 نوفمبر 2024
نهارات الجزائر وليالي العراق
مع أن التطورات العاصفة في الديار العربية الواسعة لا تزال على حالها، تستقطب الانتباهات والتعليقات نفسها، تثير الخواطر، وتستبدّ بالوجدان المثقل بالأسى المعتق في الصدور منذ عقود غابرات، إلا أن المقاربة الملحّة، أو قل المقارنة المؤجلة بين حالتي الجزائر والعراق، موضوع هذه المطالعة، فرضت نفسها بنفسها أخيراً، على الأقل بمناسبة انقضاء عام كامل على الانتفاضة الجزائرية ناصعة البياض، ودخول انتفاضة العراق الدامية مرحلةً تبدو أكثر حرجاً مما كانت عليه في أي وقت مضى. ففيما عبر الجزائريون مخاضهم الثوري بالحد الأدنى من الخسائر، وبأقل القليل من الآلام، ومن غير نقطة دم، حيث أنهوا زمن الرئيس الجالس على مقعد متحرّك، وأسقطوا "العصابة" الفاسدة المستبدّة، ثم حاكموها بلا مجاملات، وأجروا أول انتخابات رئاسية حقيقية وفق الأسس الدستورية، لا يزال العراقيون الذين أبلوا أحسن إبلاء في الساحات والميادين يراوحون، مع الأسف، في المكان، من دون تحقيق أي انجاز يعتد به، على الرغم من أنهم يواصلون ثورتهم الشعبية بعناد عزّ نظيره، ويدفعون ثمناً باهظاً يجل عن كل وصف.
وهكذا تكونت صورتان متضادتان لثورتين شعبيتين كبيرتين، كِبَر أهم بلدين عربيين في مشرق العالم العربي وفي مغربه، أولاهما صورة عراقية مؤلمة تقطّع نياط القلب، وتدعو إلى الحزن والرثاء، لشدّة ما احتشد فيها من مشاهد عنف وقتل وخطف فاقت أسوأ التوقعات، تقارفها سلطة غامضة، يصحّ فيها القول، من دون تحفظ، إنها سلطة مليشياوية مرتهنة لسيدها الإيراني، وثانيهما صورة جزائرية مشرقة، إلا من بعض الظلال، تدعو في المقابل إلى الثقة والاطمئنان، وتبعث أيضاً على الاعتزاز.
لا نعلم كم من العراقيين سألوا أنفسهم سراً، أو تساءلوا بين بعضهم بعضاً علناً، وهم يواصلون ثورتهم السلمية بشجاعة وصبر شديد، لماذا لم تسقط ضحية واحدة في الجزائر على مدى سنة كاملة، بل وحتى لم ينكسر لوح زجاجٍ واحد في بلد المليون شهيد، فيما يجري القتل في بلاد الرافدين بالجملة، وأحياناً بالعشرات في اليوم (كما في الناصرية) وتتم عمليات الخطف والاغتيال بدم بارد، في وضح النهار وآناء الليل، سواء في ساحة التحرير ببغداد، أو في مدن الفرات الأوسط والجنوب، ولماذا، بحق السماء، يحدث كل هذا الاستخفاف بحياة الناس، تارة على يد "طرف ثالث" وطوراً بفعل فاعل مثل أصحاب القبعات الزرقاء؟
وأحسب أن سبب كل هذا الافتراق بين الصورتين المتقابلتين في المشرق والمغرب واضح وضوح الشمس في كبد السماء، وفارق كافتراق الليل عن النهار، وكامن في معطى جوهري أساسه أن في الجزائر مواطنة حقة، لا أثر فيها للجهوية. وبالطبع ليست فيها محاصصة طائفية، كما أن لدى الجزائريين جيشاً متماسكاً، يمثل الركيزة الأساسية الحامية للشعب، والحامل المتين لدولة المؤسسات، شأنه في ذلك شأن دول العالم الثالث، إلى جانب أنه كانت لديهم شخصية مركزية مستقيمة، وغير طامحة بالسلطة، اسمها قايد صالح، الذي سلّم الأمانة قبل يومين من تسليمه الروح راضياً مطمئناً.
على العكس من هذه الصورة الجزائرية المشرقة، تبدو الصورة العراقية بالغة الكآبة، ومثيرة لكل علامات الهم والغم، حيث لا توجد في واقع الأمر سلطة آمرة ناهية، ولا جيش وطني سوى بالاسم فقط، ولا قوى أمنية مركزية، ولا دولة إلا على الورق، دولة استولت عليها منظومة الفساد والمحاصصة، وحلت محلها عشرات المليشيات، بدليل أن نحو 800 شاب وفتاة قتلوا، وأكثر من 25 ألف جريح، بينهم خمسة آلاف معاق، والحبل على الجرار، من دون أن تعلن عشرات لجان التحقيق المشكّلة تباعاً، عن هوية القتلة الذين يرافقون قوى الأمن جهاراً نهاراً، في أثناء انقضاضهم على الساحات.
في ظل الهيمنة الإيرانية الطاغية على البلاد والعباد، في البلد المُبتلى بالانقسامات الطائفية والعرقية، يبدو أن العراقيين الشجعان الذين أظهروا بسالةً ترقى إلى مستوى المعجزات، سيدفعون ثمناً أفدح من كل ما دفعته ثورات الموجة الثانية من الربيع العربي، سواء في الجزائر أو السودان ولبنان، حيث يبدو ليلهم الطويل، المتواصل منذ نحو أربعة أشهر، طويلاً بعد، ليس لأن مسيراتهم واعتصاماتهم تجري في الليل (مسيرات الجزائريين تجري في النهار)، وإنما لأن العمائم والرايات السوداء غزت أرض السواد، بعد الغزو الأميركي، وجعلت بغداد أول عاصمة من بين العواصم الأربع، الواقعة في قبضة الولي الفقيه.
لا نعلم كم من العراقيين سألوا أنفسهم سراً، أو تساءلوا بين بعضهم بعضاً علناً، وهم يواصلون ثورتهم السلمية بشجاعة وصبر شديد، لماذا لم تسقط ضحية واحدة في الجزائر على مدى سنة كاملة، بل وحتى لم ينكسر لوح زجاجٍ واحد في بلد المليون شهيد، فيما يجري القتل في بلاد الرافدين بالجملة، وأحياناً بالعشرات في اليوم (كما في الناصرية) وتتم عمليات الخطف والاغتيال بدم بارد، في وضح النهار وآناء الليل، سواء في ساحة التحرير ببغداد، أو في مدن الفرات الأوسط والجنوب، ولماذا، بحق السماء، يحدث كل هذا الاستخفاف بحياة الناس، تارة على يد "طرف ثالث" وطوراً بفعل فاعل مثل أصحاب القبعات الزرقاء؟
وأحسب أن سبب كل هذا الافتراق بين الصورتين المتقابلتين في المشرق والمغرب واضح وضوح الشمس في كبد السماء، وفارق كافتراق الليل عن النهار، وكامن في معطى جوهري أساسه أن في الجزائر مواطنة حقة، لا أثر فيها للجهوية. وبالطبع ليست فيها محاصصة طائفية، كما أن لدى الجزائريين جيشاً متماسكاً، يمثل الركيزة الأساسية الحامية للشعب، والحامل المتين لدولة المؤسسات، شأنه في ذلك شأن دول العالم الثالث، إلى جانب أنه كانت لديهم شخصية مركزية مستقيمة، وغير طامحة بالسلطة، اسمها قايد صالح، الذي سلّم الأمانة قبل يومين من تسليمه الروح راضياً مطمئناً.
على العكس من هذه الصورة الجزائرية المشرقة، تبدو الصورة العراقية بالغة الكآبة، ومثيرة لكل علامات الهم والغم، حيث لا توجد في واقع الأمر سلطة آمرة ناهية، ولا جيش وطني سوى بالاسم فقط، ولا قوى أمنية مركزية، ولا دولة إلا على الورق، دولة استولت عليها منظومة الفساد والمحاصصة، وحلت محلها عشرات المليشيات، بدليل أن نحو 800 شاب وفتاة قتلوا، وأكثر من 25 ألف جريح، بينهم خمسة آلاف معاق، والحبل على الجرار، من دون أن تعلن عشرات لجان التحقيق المشكّلة تباعاً، عن هوية القتلة الذين يرافقون قوى الأمن جهاراً نهاراً، في أثناء انقضاضهم على الساحات.
في ظل الهيمنة الإيرانية الطاغية على البلاد والعباد، في البلد المُبتلى بالانقسامات الطائفية والعرقية، يبدو أن العراقيين الشجعان الذين أظهروا بسالةً ترقى إلى مستوى المعجزات، سيدفعون ثمناً أفدح من كل ما دفعته ثورات الموجة الثانية من الربيع العربي، سواء في الجزائر أو السودان ولبنان، حيث يبدو ليلهم الطويل، المتواصل منذ نحو أربعة أشهر، طويلاً بعد، ليس لأن مسيراتهم واعتصاماتهم تجري في الليل (مسيرات الجزائريين تجري في النهار)، وإنما لأن العمائم والرايات السوداء غزت أرض السواد، بعد الغزو الأميركي، وجعلت بغداد أول عاصمة من بين العواصم الأربع، الواقعة في قبضة الولي الفقيه.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024