في رحلة الطبيب وعالم النباتات الألماني ج. او. هابنسترايت، التي ترجمها إلى العربية ناصر الدين سعيدوني، رؤية أخرى إلى بلدان المغرب العربي. فلم تكن الرحلة التي قام بها عام 1732 رحلة سطحية، رغم أن مدتها الزمنية كانت قصيرة جداً، (10 أشهر)، بل كانت على درجة من الأهمية العلمية ومن التقصي، وقد حاول فيها الرحالة الألماني أن يكون فكرة شاملة عن المكون البشري والتنوع البشري والغطاء النباتي والجيولوجي لهذه المنطقة شديدة الأهمية بالنسبة إلى أوروبا، وبالنسبة إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، على مرّ العصور.
ورغم أن هابنسترايت لم يكمل رحلته إلى المغرب، وقصرها على الجزائر وتونس وليبيا، إلا أنها تقدم، كما يقول مترجم الكتاب، ناصر الدين سعيدوني، صورة لأقطار المغرب العربي، الجزائر وتونس وطرابلس، في النصف الأول من القرن الثامن عشر، صورة "أقرب ما تكون إلى الاعتدال والموضوعية والنظرة المتزنة بالمقارنة مع باقي الكتابات المعاصرة لها من أمثال كتابات لاكوندامين (1731) وج. مورغان (1731) وج. ب طولون (1732)، بل تعتبر مع اختصارها أكثر دقة مما تضمنته رحلة الطبيب الإنكليزي شو (1738)، وهذا ما شجعنا على ترجمتها والتعليق عليها وتقديمها للقارئ لتكتمل الجوانب التي تركز عليها باقي الكتابات الغربية عن الفترة العثمانية من تاريخ المغرب العربي".
يؤكد ناصر الدين سعيدوني أن رحلة هابنسترايت ظلت بعيدة عن أيدي الباحثين، كذلك فإن الكتّاب الفرنسيين لم يحاولوا الوصول إليها، نظراً لصعوبة الأمر، وربما حسب رأي سعيدوني، هذه الرحلة لم تقدم لهم ما يريدون، ولا تتساوق مع الرؤية التي يحاولون تعميمها على بلدان المغرب العربي. كانت هذه الرحلة بالنسبة إلى عالم النبات الألماني بتكليف من ملك بولونيا، فقد كلفه رئاسة بعثة علمية إلى شمال إفريقيا للتعرف "من كثب إلى نباتات تلك المنطقة وحيواناتها، والعمل على جمع عيّنات منها لفائدة القصر الملكي". وقد كان هابنسترايت ذكياً، لأنه استطاع أن يقوم بمهمته العلمية الاستطلاعية على أحسن وجه.
اعتمد العالم الألماني هابنسترايت على تقنية الرسائل في تدوين رحلته
وإذا كان قد دخل الجزائر وجال فيها، إلا أن المناخ العام السائد في تلك الفترة، متسم بروح العداء للوجود الأوروبي بعد احتلال الإسبان لوهران والمرسى الكبير سنة 1732. هذا الجو العام دفعه إلى التخلي عن طموحه في إكمال رحلته التي كان مخططاً لها أن تقطع الصحراء الكبرى وتصل إلى السنغال، لتكوين فكرة واضحة عن تخوم القارة الأفريقية. وكان أن عجلت وفاة ملك بولونيا بإنهاء رحلته والعودة سريعاً إلى ألمانيا، وقد توفي بالحمى عام 1757عندما كان يقدم الإسعافات لجيش سكسونيا الذي كان يقاتل جيش الملك لويس الرابع عشر.
اعتمد العالم الألماني هابنسترايت على تقنية الرسائل في تدوين رحلته، وكان مخاطبه هو "راعي الرحلة ملك بولونيا ومنتخب الساكس يطلعه فيها على ما شاهده أو تعرف إليه أو جلب انتباهه في أثناء سفره في الجزائر وعند انتقاله إلى تونس أو توجهه إلى طرابلس الغرب، فجاءت وصفاً دقيقاً لأوضاع تلك الأقطار وتعبيراً صادقاً عن آرائه، إذ لم يهتم فيما سجله إلا برصد الواقع كما تعرف إليه، وهذا ما جعلها في الواقع تقريراً أدبياً عن مهمة علمية الهدف منها التعرف إلى طبيعة البلاد وسكانها والبحث عن الحيوانات والنباتات الإفريقية والوقوف على معالم الحضارة الرومانية". تبدأ الرسالة الأولى بمغادرة هابنسترايت مدينة دردسن نحو مارسيليا، ثم الوصول إلى الجزائر في يناير 1732.
أما الرسالة الثانية، فهي حول جولته في مليانة وسور الغزلان وبرج حمزة بالبويرة. أما الرسالة الثالثة، فهي حول مشاهداته من الجزائر إلى عنابة وقسنطينة وباجة، حيث التقى باي تونس حسين بن علي. وتتناول الرسالة الرابعة سفره من تونس إلى طرابلس. دامت رحلة هابسترايت 10 أشهر، في تلك المرحلة من الربع الأول من القرن الثامن عشر، وهي كما يقول مترجم الكتاب، تحولت فيها ولايات الجزائر وتونس وطرابلس الغرب من ولايات تابعة للدولة العثمانية إلى كيانات مستقلة بشؤونها، رغم الارتباط بالبلاط العثماني باعتبار السلطان العثماني هو راعي شؤون المسلمين.
وتكشف تلك الرحلة طبيعة تدبير شؤون السكان ومكانة الجيش (الفرق الإنكشارية). ثم أيضاً السياسات الجبائية القاسية التي كانت تثقل كاهل السكان، وخصوصاً في مناطق الريف، ما أدى إلى حدوث تمردات في أوساط السكان. يختتم سعيدوني تقديمه بخلاصة جوهرية، في تقييمه للرحلة، يقول: "هذا وقد كان صاحب الرحلة يعبّر بصدق عن مشاعره ويبدي آراءه بصراحة في الأوضاع السائدة في أقطار المغرب العربي، ويعرب عن موقف متفهم لميول الشعوب وخصائص الجماعات وخاصة طبائع أهالي الريف، وهذا ما سمح له بتجاوز النظرة السطحية لدى غالبية الرحالة الأوروبيين التي تحكم على ظاهر الأشياء، وساعده على التعرف إلى ما كان يتميز به التونسيون، ويختص به الجزائريون، كما استطاع أن يلتمس الصلات الأخوية والروابط الروحية التي تجمعهم خاصة مواجهة الأخطار الخارجية".
البلاد المتوحشة
يصحح هابنسترايت النظرة الأوروبية الخاطئة السائدة لسكان الجزائر، التي رسمتهم على أنهم "متوحشون وشرسون"، يقول: "وهذه البلاد (مملكة الجزائر) تعرف لدى الكتّاب الأوروبيين ببرباريا، أو البلاد المتوحشة، وحسب دلالة هذه الكلمة، فإنها تعني أنها مأهولة بأشخاص متوحشين وشرسين، وهذا ما نعتبره منافياً للحقيقة، إذ يجب أن يصنف القسم الأكبر من سكان هذه البلاد، فهم أفراد بعيدون عن التوحش، يقدّرون الأجانب ولهم رغبة ملحّة في التعاون معهم، فلفظ المتبربرين أو البرابرة يراد به سكان الصحراء أو أنه مقتبس من الإغريق أو الرومان الذين كانوا يطلقون على كل الشعوب التي لا تتكلم لغتهم هذه التسمية".
برتقالة الداي
يكتب هابنسترايت عن لحظة وصوله من البحر إلى ميناء الجزائر: "وفي 16 فبراير(1732) رست بنا السفينة بميناء الجزائر، وفي هذا اليوم تناولنا آخر قطعة من الخبز الذي بحوزتنا، والذي كنا نقتصد في توزيعه ليفي بحاجتنا أثناء السفر، وكما جرت العادة فإنه لا يمكن النزول إلى البر بدون إشعار الداي بذلك، وهذا ما دفعني إلى إخبار القنصل الإنكليزي بلاك بوصولنا، وكان ملكنا الذي قمنا بالرحلة لحسابه يود أن نضع أنفسنا تحت حماية ملك فرنسا وجمهورية هولندا، لكني رأيت أن من الأفضل لنا أن نبحث عن المعونة عند الأمة التي وصلنا إلى الجزائر تحت علمها، وهي إنكلترا، وبالفعل فقد قدم القنصل الإنكليزي السيد بلاك إلى الميناء لاستقبالنا، واصطحبنا معه إلى منزله حيث قدم لنا القهوة كما جرت العادة، وبعد ذلك، توجهنا لملاقاة الداي، الذي سألني عن الغرض من رحلتي هذه، وبعد أن تأكد من أننا قدمنا إلى دولته تشريفاً له بأبحاثنا، وقد أعرب له أثناء ذلك القنصل الإنكليزي عن نياتنا الحسنة تجاه دولته، مؤكداً له أن ليس لدينا مخططات تضر بحكومته، بعدها أبلغنا الداي بواسطة أحد مترجميه، أن بلاده مفتوحة لكم في رحلتكم، وأنكم تستطيعون الاعتماد على حمايته، وقبل أن ننصرف من عنده أعطى لكل واحد منا برتقالة حلوة المذاق تعبيراً عن القبول الحسن الذي حظينا به لديه".
مشروبات روحية للضباط
لقد حملت معي من مرسيليا مشروبات روحية وعلباً من المربى، فقمت بتوزيعها على موظفي قصر الداي من الضباط، حسبما تقتضيه العادة عند القيام بالزيارة، وبعد هذه الإجراءات لم يعد أي أحد يثير مخاوفنا، سواء كان تركياً أو عربياً داخل المدينة أو خارجها، بل أصبحنا محل تقدير لكوننا أجانب ولأننا نمتهن حرفة الطب والتداوي بالأعشاب، فقد اعتادوا تسميتنا بالباربيرو (المشتغل بالطب أو المداوي بالأعشاب)، ومرد ذلك أنهم كانوا يروننا في أغلب الأحيان نحمل بين أيدينا زهوراً ونباتات، وهذا يعتبر في حد ذاته أحسن وسيلة لضمان سلامتنا.
تجاوز النظرة السطحية لدى غالبية الرحالة الأوروبيين التي تحكم على ظاهر الأشياء
لم تكن جهودي في إخفاء كوني طببياً ذات جدوى، فقد اعتقدت أنّ من الخطإ، بل من المضر لمشاريعي في البحث أن أرفض وصف الأدوية لبعض كبار الشخصيات، وخاصة الآغا، وهو ابن الداي الذي عرف المفعول الجيد للوصفات التي كنت أقوم بتحضيرها، فقدم لي هدية في شكل لبؤة، وقنفذين صغيرين، وأعطى أوامره بأن يبحث لي عن النعام وحيوانات نادرة أخرى، والسلوك نفسه أبداه معي الآخرون، فكلما قدمت خدمة لأحد إلا حاول أن يظهر لي عرفانه بالجميل بتقديم هدايا كالتي قدمها لي الآغا. وهذا ما جعلني آمل أن أحقق الهدف الرئيسي من رحلتي في ما يتعلق بالبحث عن الحيوانات الممكن العثور عليها في منطقة شمال أفريقيا، وقد اعتقدت أنّ بإمكاني تنمية مجموعتي من الحيوانات التي تحصل عليها المحلة من سكان الريف أثناء جمعها للضرائب، إذ اعتادت أن تحمل معها عند عودتها إلى مدينة الجزائر بعض الحيوانات المتوحشة.
القراغلة أو عبيد السلطان
تحتاج هذه الرحلة إلى وقفة مطولة، سنعود إليها لاحقاً، وسنقصرها هنا على انطباعات هابنسترايت عن المجتمع الجزائري، يكتب: "لقد ظل الباب العالي يرسل إلى الجزائر باشوات يمثلون السلطان حتى سنة 1710، وعندما رفض الديوان الممثل للحامية استقبال الباشا ممثل السلطان، أصبح الداي أو رئيس الحامية منذ ذلك اليوم صاحب السيادة في حكم الجزائر وقد أطلق عليه قناصل الدول الأجنبية لقب ملك، وهو يتمتع بسلطة مطلقة، وإن ظل يرسل كل سنة هدية إلى إستانبول اعترافاً بأحقية السلطان العثماني في تولي أمور المسلمين وشرعية تمثيلهم، وهذا ما جعل دايات الجزائر يحتفلون بتولية السلاطين العثمانيين بإستانبول ويستقبلون في الجزائر بين الحين والآخر القابيجي باشا أو المرسلين فوق العادة من قبل السلطان العثماني. إن سكان مملكة الجزائر ليسوا كلهم من أصول واحدة، فالحكومة بيد الأتراك الخلص أي الذين ينحدرون من آباء وأمهات أتراك، وهم في الغالب يستقدمون من المشرق أو قد يأتي بهم القراصنة بالقوة إلى الجزائر. والأتراك ينظرون إلى الجزائريين نظرة يشوبها الاحتقار وينعتونهم بأنهم مجموعة من العصاة الخارجين عن القانون فلا يجندون أحداً منهم في الحامية، والنظرة نفسها تحملها النساء التركيات عن الجزائريين، على أن الرجال الأتراك يضطرون إلى الزواج من الأسيرات المسيحيات أو مع نساء البلاد أي الجزائريات، ولكن أولادهم لا يستطيعون احتلال المراتب الكبيرة في المملكة، وهم المنحدرون من آباء أتراك وأمهات جزائريات يحملون اسم الكراغلة (أبناء العبيد) ويكونون مع العناصر التركية جيشاً تعداده مائة ألف رجل. وهذا الجيش المعروف بالحامية، يقسم كل سنة إلى ثلاثة أقسام تستخدم في مختلف الأوقات لإرغام القبائل البربرية والعربية على دفع الضريبة. ومن الجند من يشتغل بالقرصنة في البحر، ومنهم من يعمل بالحاميات المعسكرة في مواقع محددة بالمدينة". وحول دور الجيش في الجزائر يقول: "يمتلك الجيش، المعروف بالحامية، السلطة العليا في الجزائر، فهو يقيل الدايات ويعين آخرين مكانهم حسب رغبته، وغالباً ما تنتهي حياة الدايات بالقتل حتى أصبح الداي الذي يموت دون أن يتعرض للاغتيال ينظر إليه على أنه وليّ صالح ويصبح قبره محل تقدير لكون هذه النهاية نادرة جداً. هذا وإن جنود الحامية كلهم متساوون، فليس لهم رئيس يخضعون له سوى قائدهم المباشر، والأشخاص الذين يتميزون منهم بحكم التقدم في السن والوظيفة يتسلمون أجرة أعلى من الآخرين كل واحد حسب سنّه ومهمته، والذين يصلون منهم إلى أعلى المراتب يتقاضون عشرة ريالات في الشهر، ويصلون في سلّم الترقية إلى رتبة معزول آغا، وهي كلمة تعني الرجل الحر، فيظل صاحب الرتبة يتسلم جرايته (أجرته) حتى وإن لم يقم بأي عمل، نفس الامتيازات يتمتع بها الأعلاج، وهم النصارى الذين اندمجوا في العنصر التركي، ولكنهم ظلوا بعيدين عن تولي منصب الداي".