لم يعد ممكناً فك ألغاز ما يحيط بحرب "جبهة النصرة" على ما بقي من فصائل المعارضة السورية المسلحة، من أرياف حلب إلى إدلب وريف حماة، والتي وصلت إلى مرحلة متقدمة باتجاه فرض "هيئة تحرير الشام" ("النصرة" سابقاً) كامل سيطرتها هناك، من دون فهم سر الموقف التركي، أو بالأحرى اللاموقف المُعبر عنه بالصمت وكأن شيئاً لا يحصل، رغم أن المنطقة التي تتقدم فيها هذه الجبهة المصنفة إرهابية، هي نظرياً، منطقة النفوذ التركي في سورية، بموجب غرفة عمليات مسار أستانة واتفاقات سوتشي (17 سبتمبر/ أيلول 2018)، ومع أن الفصائل التي تتعرض للسحق حالياً من قبل "هيئة تحرير الشام" ليست سوى حليفة لتركيا، وهي تسير نحو الاختفاء عملياً على غرار ما حصل مع فصيل "نور الدين زنكي" في الأمس القريب، وما بدأ يحصل مع "أحرار الشام" اليوم انطلاقاً من حل نفسها في سهل الغاب أمس الأربعاء.
وأمام هذا الصمت ــ اللغز التركي إزاء ما يحصل تحت أنظار الجيش التركي ونقاط المراقبة والمراكز العسكرية المنتشرة في هذه المحافظات الثلاث شمال غربي سورية، معطوفاً على صمت روسي غريب بدوره، تزداد المعطيات والتسريبات والتحليلات حول احتمال وجود "صفقة" ما، ربما يجرى تنفيذها اليوم بعنوان حملة "النصرة"، تقوم على السماح لهذا التنظيم المصنف إرهابياً بالتقدم عسكرياً للسيطرة على المناطق المذكورة، تمهيداً للسماح لروسيا وللنظام السوري بالتدخل عسكرياً، ربما برياً، لسحق "الجبهة"، واحتلال تلك القرى والبلدات والمدن، في مقابل موافقة موسكو على العملية العسكرية التركية المقررة ضد المسلحين الأكراد، لا شرقي الفرات فحسب، بل أيضاً غربي النهر، في منبج مثلاً، وربما ليس حصراً.
ويهمس متابعون أتراك حيال ما يحدث في الجانب الآخر من الحدود، بما لا يمكنهم قوله جهاراً، بسبب الحظر التركي الرسمي، حول لغز آخر، وهو تزامن حملة "النصرة" على حلفاء تركيا وتقهقرهم أمامها، وصمت أنقرة على كل ما يحدث، مع كل ما يدور حول قرار الانسحاب الأميركي من سورية، وعودة الأزمة الأميركية التركية على خلفية عدم اتفاق واشنطن وأنقرة على شروط الانسحاب ومصير المسلحين الأكراد والقواعد الأميركية التي يفترض أن يتم إخلاؤها من شرقي الفرات وغربه، ومستقبل السلاح الثقيل الذي راحت أميركا تسلمه، منذ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، لمقاتلي "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) وحزب الاتحاد الديمقراطي و"وحدات حماية الشعب" الكردية.
هكذا، يخرج من يستمع لمزيج من التحليل والمعلومات على لسان مراقبين أتراك متابعين جداً للموقف، بما يشبه القناعة بأن ما يجري مدروس في إطار الصفقة المذكورة أعلاه، وفي سياق التوافق الروسي التركي في الوقت الضائع لما بين الانسحاب الأميركي والبقاء، لتنتهي الصورة إلى ما يشبه إرضاء تركيا بالسيطرة على مناطق نفوذ المسلحين الأكراد، في مقابل استرداد النظام السوري والروس السيطرة على مناطق إدلب وحماة وحلب، أو بعضها على الأقل، مع المنافذ الحدودية والطرقات الدولية الواقعة في هذه المناطق، أو التي تمرّ عبرها. وما يعزز هذا السيناريو هو أن المناطق التي تسيطر عليها "الهيئة" حالياً هي المناطق نفسها التي طالب بها الروس وإيران قبيل اتفاق سوتشي، أي ريفي حماة الشمالي والغربي، وريف إدلب الجنوبي، بالإضافة طبعاً إلى المناطق التي يمر بها الطريق الدولي الذي يصل مناطق النظام في الجنوب بمحافظة حلب وبالحدود التركية. لذلك مثلاً، يتوقّع مراقبون عسكريون في تركيا ظهور ردّة فعل دولية مع ازدياد توسّع رقعة سيطرة "جبهة النصرة" على محافظة إدلب خصوصاً، لأن انتشار نفوذ هذا الفصيل في "المنطقة منزوعة السلاح" بموجب اتفاق سوتشي، من شأنه إعطاء ذريعة لنظام بشار الأسد أو الروس للتدخّل العسكري.
وفي مقابل هذه الأجواء التي تختلط فيها المعلومات بالتحليل، يتحدث آخرون في أنقرة اليوم عن عدم وجود أي صفقة أو مؤامرة روسية تركية. وتشير مصادر تركية، فضلت عدم الكشف عن هويتها بسبب التكتم الرسمي التركي حول الموقف، إلى أن أنقرة لديها خياران للتعامل مع "جبهة النصرة": الأول سياسي يتعلق بأن تسعى إلى إدخالها في العملية السياسية مع المعارضة، بعد حل نفسها، وهو الأمر المستبعد مع رفض "هيئة تحرير الشام" الدعوات التركية السابقة، وبعد التطورات العسكرية الحاصلة حالياً. أما الخيار الثاني، وهو الأرجح بالنسبة للمصادر المقربة من وزارة الخارجية التركية، فيقوم على التعامل العسكري التركي المباشر مع "الهيئة"، بعد أن جرى استقطاب فصائل المعارضة الناجية من هجوم "جبهة النصرة" في منطقة عفرين، تمهيداً لترتيب الصفوف لأي أعمال عسكرية لاحقة في إدلب ومنطقة شرق الفرات، خصوصاً مع رفض "الهيئة" منح معابر حدودية طلبتها أنقرة، من بينها معبر باب الهوى، ما يساهم في ازدياد النقمة التركية عليها. وأشارت المصادر إلى امتعاض كثر في بعض مؤسسات الدولة التركية، لأن تصرفات "هيئة تحرير الشام" تضر بالسياسة الخارجية التي تتبعها تركيا لحماية إدلب من تبعات انتشار "الهيئة"، وإعطاء الذريعة لخصوم أنقرة. وتشير المصادر إلى أن اللقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في موسكو هذا الشهر، ربما يوضح شكل الصفقة التركية الروسية حول إدلب وشرق الفرات، في ظل احتمالات بأن ينفذ النظام مع روسيا عمليات عسكرية بالمنطقة، قبل حصول التفاهم التركي الروسي، إذ إن هذا التفاهم ساهم باعتراف موسكو بانسحاب العناصر المتطرفة من المنطقة منزوعة السلاح وسحب السلاح الثقيل من المنطقة، رغم أن ذلك لم يكن قد حصل بالفعل من قبل "هيئة تحرير الشام".
وقال أستاذ العلاقات الدولية في جامعة "كوجا إيلي" التركية، سمير صالحة، لـ"العربي الجديد"، "لا أظن أن أنقرة تقف موقف المتفرج على هذه الهجمات التي تنفذها عناصر النصرة ضد قوى المعارضة المعتدلة المقربة من تركيا. أظن أن المسألة مرتبطة بقرار شن عملية عسكرية واسعة في هذه المنطقة ضد هذه المجموعات أم لا". وأضاف "يبدو أن هناك إصرارا من هيئة تحرير الشام والمجموعات المقربة منها، على استغلال الفرصة السانحة الآن، بسبب انشغال أنقرة بملف آخر هو شرقي الفرات، ويبدو أن النصرة تريد تسجيل بعض التقدم الميداني والعسكري والسياسي، طالما أن أنقرة في هذه الفترة ترصد عن قرب مسار الأمور في منبج والمنطقة المجاورة، وهناك رغبة واضحة لدى البعض في تشتيت الجهود التركية التي تنسق مع قوى المعارضة، وإشغالها بجبهتي إدلب ومنبج وشرق الفرات، في محاولة لإخراجها ضعيفة من الملف السوري. لذلك أنقرة حريصة على ألا تدخل في مواجهة عسكرية غير محسوبة، وألا تشتت جهودها مع المعارضة في الدخول في مواجهة عسكرية على حساب جبهة أخرى، ولا أعتقد أن المسألة ستطول كثيراً".
وحول التعتيم التركي على هذه العمليات، أوضح صالحة أن "هذه العمليات العسكرية التي تشنها تحرير الشام ضد فصائل المعارضة المقربة من تركيا لا يمكن التعتيم عليها أو تجاهلها، لأنها تستهدف مباشرة حليفاً سورياً ينسق مع أنقرة، لذلك فإنه في نهاية الأمر لا بد أن تكون هناك ردة فعل تركية عاجلة وسريعة ضد هذا التحرك والهجمات التي تشنها هيئة تحرير الشام، إذ كان الرهان قبل أشهر أن تقبل هذه المجموعات بالعروض التركية باتجاه حل نفسها، وإخراج المقاتلين الأجانب من المنطقة، ولكن يبدو أن الأمور تسير بشكل معاكس". ورجح صالحة تنسيقاً تركياً ــ روسياً للقيام بعملية عسكرية واسعة ضد "النصرة"، لكنه أشار إلى أن القيام بعملية عسكرية من قبل أنقرة ضد "جبهة النصرة" ليس بالأمر السهل، "لأن هيئة تحرير الشام موجودة في محافظة إدلب منذ 4 سنوات، وهناك عناصر جديدة تلتحق بها وتنسق معها، وتمتلك ثقلاً عسكرياً ميدانياً، وأي عملية عسكرية تركية ضد هذه المجموعات لا بد أن تكون في إطار خطط عسكرية واسعة وشاملة، في منطقة يسكنها ملايين المدنيين، ما قد يتسبب بموجة لجوء جديدة باتجاه تركيا".
وفي سياق هذا التصعيد الذي بدأ مطلع العام الجديد، أجبرت "هيئة تحرير الشام"، أمس الأربعاء، "حركة أحرار الشام" الإسلامية على حل نفسها في منطقة سهل الغاب بريف حماة الغربي، بعد معارك خاطفة سيطرت خلالها "الهيئة" على العديد من القرى والبلدات في المنطقة التي كانت الحركة تسيطر عليها منذ حين. وبحسب الاتفاق، فقد حلت "حركة أحرار الشام" نفسها في جبل شحشبو وسهل الغاب، على أن تتبع المنطقة إلى "حكومة الإنقاذ"، الذراع السياسية لـ"هيئة تحرير الشام"، إدارياً وخدمياً، على أن "يتم ترتيب الرباط والأعمال العسكرية في المنطقة بإشراف تحرير الشام، ويُسلم السلاح الثقيل والمتوسط الموجود لدى الأحرار مع الإبقاء على السلاح الفردي". وخيّر الاتفاق عناصر الحركة بين البقاء في المنطقة مع ضمانة من قبل "تحرير الشام" بعدم ملاحقتها عناصر الحركة، بمن فيهم الذين شاركوا في الاقتتال، أو الترحيل إلى ما يعرف بمنطقة "غصن الزيتون" (عفرين وريفها شمالي غربي حلب)، وإبقاء المقرات العسكرية باستلام العناصر الملتزمة بالرصد مقابل نقاط النظام. وسمحت "الهيئة" لمن يريد "الرباط" في مواجهة قوات النظام في المنطقة بالبقاء وفق الاتفاق الذي يتقاطع الى حد بعيد مع الاتفاقيات التي عقدها النظام مع فصائل المعارضة السورية في العديد من المناطق.
وفي السياق نفسه، رأى عضو وفد قوى الثورة السورية العسكري إلى مباحثات أستانة، أيمن العاسمي، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "بغض النظر عن اتفاق سوتشي وما يحدث من تهديد للاتفاق، لكن بالمحصلة هناك اتفاقات أكثر عمقاً تتعلق بإدلب، وهي الإبقاء عليها بعيداً عن سلطة النظام". وقالت مصادر إعلامية معارضة إن وفداً يمثل "هيئة تحرير الشام" فاوض، يوم الثلاثاء الماضي، وجهاء مدينة معرة النعمان والمجلس العسكري فيها، إلا أن المفاوضات فشلت بسبب اشتراط "الهيئة" تسليم المدينة والمقرات العسكرية والمؤسسات والسلاح المتوسط والثقيل دون قتال، كما حصل في مدينة الأتارب بريف حلب الغربي منذ أيام، وإلا سيتم استخدام القوة للسيطرة على المدينة. وأكدت المصادر أن أهالي معرة النعمان والمجلس العسكري فيها رفضوا الشروط التي وضعتها "الهيئة"، وطردوا الوفد، ما يعني أن المدينة مقبلة على تصعيد عسكري كبير، خصوصاً أن المجلس العسكري يستعد منذ أيام للمعركة، إذ قطع جميع الطرق المؤدية إلى المدينة ورفع سواتر ترابية، وسط انتشار عشرات العناصر وأبناء المدينة للدفاع عنها ومنع دخول "هيئة تحرير الشام" إليها، والقيام بانتهاكات تطاول المدنيين. وأكد قياديون في الجيش السوري الحر أن دخول معرة النعمان من قبل مسلحي "الهيئة" لن يكون "نزهة". وتعد مدينة معرة النعمان الواقعة بالقرب من طريق حلب ــ حماة، ومدينة أريحا الواقعة على طريق حلب - اللاذقية، من أهم معاقل المعارضة السورية في محافظة إدلب، ووقوعهما بيد "هيئة تحرير الشام" ينهي إلى حدّ بعيد الثورة والمعارضة في هذه المحافظة التي تبدو أنها مقبلة على تطورات عسكرية، ربما تبدّل خارطة السيطرة الميدانية بشكل كبير، تخرج عقبه المعارضة السورية من دائرة التأثير.
وكانت "هيئة تحرير الشام" سيطرت، الإثنين الماضي، على قرى وبلدات كوكبا ورشا الشمالية ورشا الجنوبية وزنكار في منطقة جبل شحشبو جنوب محافظة إدلب. كما سيطرت على قرى الدقماق والزقوم وقليدين والقاهرة في منطقة سهل الغاب بريف حماة الشمالي الغربي، إثر اشتباكات عنيفة مع "الجبهة الوطنية للتحرير" أكبر تجمع لفصائل المعارضة السورية في شمال غربي سورية. وتتبع "هيئة تحرير الشام" سياسة النظام التي اتبعها في ريف دمشق وجنوب سورية بالاستفراد بفصائل المعارضة الواحد تلو الآخر، إذ حيّدت منذ أيام "نور الدين زنكي" في ريف حلب الغربي إثر معارك انتهت بطرد مقاتلي الفصيل إلى منطقة عفرين، وحيّدت "حركة أحرار الشام" الإسلامية في ريف حماة الشمالي الغربي. وكلا الفصيلين في "الجبهة الوطنية للتحرير" التي بينت التطورات الأخيرة أنه لا تعاون ولا تنسيق بين فصائلها التي تحكمها هويات مناطقية، في ظل غياب مشروع ثوري مشترك، وهو ما أغرى "الهيئة" بقضم مزيد من المناطق والتطلع لدفع فصائل المعارضة إلى خارج الحدود الإدارية لمحافظة إدلب، التي تكتظ بملايين المدنيين كي تصبح القوة الأكثر تأثيراً فيها.