22 سبتمبر 2018
هكذا أنظر إلى المدرسة
ينظرُ الناس إلى المدرسة على أنها مكان يذهب إليه الطلاب لجمع أكبر عدد ممكن من العلامات، ومن ثم العودة إلى منازلهم ليتفاخر كل بما حصد، لكن، إذا نظرنا إلى مدى أبعد من ذلك، نرى أن المدرسة تعد بعد الأسرة المكان الأكثر تأثيرا في بناء وصقل وتشكيل شخصية تلاميذها؛ فالطلاب يقضون أكثر من نصف نهارهم فيها يوميا.
يتوقف الزمن قليلا، فأرجع إلى أيامنا هناك، وكيف كنا ننتظر حصة التربية الإسلامية؛ ننتظرها لنكتسب وعظا بالمجان، معلم الدين الذي لا ينسى، لقد غرس في قلوبنا بذورا من القيم ومكارم الأخلاق، كالمطرِ الذي ينزل على التربة الكريمة، سينبت منها ما هو طيب بإذن الله.
كلما اقتربت من معلمنا رأيته غنيا في نفسه، حكيما في طبائعه، فريدا من نوعه، وبسيطا في حاله، وفي إحدى حصصه الجميلة حدثنا بقلب نقي وصوت خفي: أن الحب في الله هو أسمى أنواع الحب طهارة وأكثرها نزاهة؛ فهو حب من غير تكلف، فلا شيء تعانيه ولا كدر تضنيه من هذا الحب، فأنت تصطفيهم في دنياك؛ لتراهم في أخراك، وتجد كل من يقع تحت ظل هذا الحب يسبق فعله عمله.
كان معلمنا يخشى علينا من الغرق أكثر من أنفسنا، الغرق في الطغيان والفساد، كان قلبه يشع نورا ويقذف هذا النور على وجهِه؛ لتراه مضيئا لمن حوله، وعلى الرغم من أنه أكبر منا سنا، إلا أنه كان يشاركنا في كل صغيرة وكبيرة كصديق لنا، يحبنا في الله، كان مثالا يقتدى به، وكان دائما يتلو قول سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) (96) مريم. فزرع الله حبه في قلوبنا، وجعله محبوبا أينما حل.
معلمنا كثير الإفادة وقوي البلاغة، حدثنا أنه سمع حديثا من أحد العلماء نقلا عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول فيه: "ما تحاب اثنان في الله إلا كان أفضلهما عند الله أشدهما حبا لصاحبه"، فالود الذي بينهم لا يتغير مهما ماجت الدنيا حولهم، ونحتت الأيام أجسامهم، وفتت الدهر قلوبهم؛ فهم يجمعهم دين وافر وعقل زاهر.
كان معلمنا يحثنا على القرآن، وقال في أحد الأيام، من يزرع الله حب القرآن في قلبه، فإن الله سيرزقه التدبر لما يتلوه لسانه، ويلهمه التفكر في معانيه وآياته، وسينعكس ذلك على أفعاله قبل أقواله، وحدثنا أن علي بن أبي طالب وصف القرآن بقوله: "إنّ القرآن فيه خبر مَن قبلكم، ونبأ مَن بعدكم، وحكم ما بينكم".
فإن أردت كتابا يخبرك عن التاريخ المنصرم فعليك بالقرآن، وإن أردت كتابا يحدثك عما سيحدث مستقبلا، لن تجد غير القرآن؛ فهو تكفل بذلك، أما ما يخص الأحكام، فالقرآن يحتوي على الأحكام، والحدود، والقضاء، قال سبحانه وتعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (23) الزمر.
سئل المعلم عن الطريقة التي يجب اتباعها لإصلاح النفس، فأجاب قائلا: إن مجالسة أهل العلم والحكمة، والرشد والفطنة، الذين حفظ الله دينهم، وهدى الله قلوبهم، وزكى أعمالهم، فيكون هؤلاء خريطتكم في الحياة، فما أحوجكم لمثلهم في كل شبر من طريقكم المظلم، فهم آذانكم التي بها تسمعون، وأعينكم التي بها تبصرون، وألسنتكم التي بها تنطقون، وكهفكم الذي إليه تأوون، فمن رأى العبرة في غيره، والنعمة في نفسه، ولم يكترث لما في هذه الدنيا الفانية التي لا سبيل لبقائها، واصطحب الصالحين، وابتعد عن المفسدين، وجهز نفسه لذلك اليوم، يوم الوقوف بين يدي الله، كما قال سبحانه وتعال: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) (4). يونس، سيأتي ذلك اليوم، ولا بد من لقاء الله -عز وجل- بأحسن صورة.