هل الكاظمي الضحية القادمة في العراق؟
"في هذا البلد لا يأمن المرء على نفسه" .. هذا ما سمعتْه من أصدقائها مرارا الناشطة الألمانية، هيلا ميفيس، عندما قرّرت الإقامة في بغداد التي أحبتها على نحوٍ لم يسبق لها أن أحبت مدينة مثلها، إلى درجة أن معارفها أطلقوا عليها لقب "عاشقة بغداد". أنشأت بيتا ثقافيا، وكرّست نفسها للعمل الثقافي والإنساني من خلاله، وحظيت باهتمام شباب المجتمع البغدادي الذين شاركوا في النشاطات والفعاليات التي تبنتها، ولكن أصدقاءها ظلوا يعتبرون بقاءها خيارا مجنونا، مع أنها استطاعت أن تعيد للمدينة بعض ألقها وعنفوانها.
شعرت هيلا، في الأسابيع الأخيرة، بأنها مطوّقة بإحساس من يتوقع شرا. تقول صديقتها العراقية، ذكرى سرسم، إن ما كان يثير هواجسها احتمال تعرّضها للاختطاف، خصوصا بعد أن شاعت في المدينة أخبار الاختطاف والتغييب لمثقفين وفنانين عديدين ظل مصيرهم مجهولا، منهم الباحث والناشر مازن لطيف والكاتب الصحافي توفيق التميمي، وقبلهما عشرات من ناشطي ثورة تشرين. وبعدما اغتيل الناشط السياسي هشام الهاشمي على النحو المعروف، تحقق فعلا ما خشيت منه هيلا، إذ ترصّدها مليشياويون وقحون، في أمسيةٍ تموزيةٍ حارة من أمسيات الأسبوع الماضي، وهي تهمّ بالعودة الى منزلها، واقتادوها إلى حيث لا يعرف أحد.
وجد المليشياويون في شخصية مصطفى الكاظمي، الذي صنفوه "عميلا أميركيا" الصيد السهل، لاتهامه بتدبير واقعة اختطاف ناشطة ألمانية
من هي الجهة التي نفذت عملية الاختطاف، وما الدوافع وراء العملية؟ يعترف المسؤول الأمني في التيار الصدري، حاكم الزاملي، بأن الخطف "وقع في منطقة مؤمنة أمنيا وعسكريا ومراقبة بالكاميرات وعلى مقربة من منازل لضباط كبار يعملون في أجهزة أمنية حساسة". هل الخاطفون كائناتٍ خرافية لا تُرى بالعين، وقدراتها خارقة إلى درجة أنها تسير في موكب سيارات ذات طابع رسمي، وتتخطّى رجال أمن ينتشرون في كل مكان، من دون أن يتمكّنوا من مشاهدتها!
وعلى درب "رمتني بدائها وانسلت"، وجد المليشياويون في شخصية رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، الذي صنفوه "عميلا أميركيا" الصيد السهل، لاتهامه بتدبير واقعة الاختطاف، غرّد المتحدث باسم مليشيا حزب الله العراقي، أبو علي العسكري، "إن عصابات الكاظمي هي التي دبرت العملية". وأعطى زعيم مليشيا العصائب النافرة عن الحشد، قيس الخزعلي، أصدقاء أميركا صفة "الطرف الثالث" الذي نفذ العملية، حيث أرادوا تهديد شركة سيمنس، الألمانية الموعودة بتنفيذ مشاريع كهرباء العراق عبر اختطاف هيلا، (سؤال داخل الصدد: لماذا لم ينصرف الذهن إلى أصدقاء إيران الذين يضخون مليارات الدولارات إلى طهران عن الكهرباء الواردة من هناك). وثمّة تغريدة أخرى مضحكة لمسؤول في الحشد الشعبي، مفادها بأن المختطفة تقيم في العراق في الخفاء منذ ثماني سنوات، وليس لديها تصريح رسمي بالإقامة، ولذلك تحركت جهة أمنية لاعتقالها والتحقيق معها (؟).
أما الكاظمي الذي كان يأمل أن يحقق اختراقا في المشهد السياسي، من خلال زيارته طهران الأسبوع الماضي، فقد جاءت واقعة الاختطاف لتشكل استفزازا مريعا له. وقدّر، وهو القادم من محيط الاستخبارات، والعارف جيدا بأساليب رجال المليشيات السوداء في النيْل من خصومهم، أنه وحده المقصود بالاختطاف، وليس غيره، وأن اختيار ناشطة ذات سمعة دولية هذه المرّة تحدّ مقصود لسلطته، ولهيبته رئيس حكومة، والرسالة التي أرادوا إيصالها له: "نحن موجودون هنا، وسنظل".
كتب أحد الناشطين: "عندما تكون الدولة مختطفة، يصبح كل فرد فيها مشروع اختطاف في أي لحظة".
ما قرأه الكاظمي على مواقع التواصل أعانه على تحديد الجهة وراء الاختطاف والغرض من العملية. ولم تكن تلك الخلاصة التي وصل إليها بعيدة عما كان عقله الاستخباري قد أخبره بها في البداية، لكنه في واقع الحال لم يكن يمتلك القاعدة الشعبية، ولا القوة العسكرية التي يستند إليها في سلوك طريق المواجهة مع المليشيات. ولذلك فضل تأجيل المواجهة إلى حين إنضاج ظروف مناسبة لتحقيق الحسم.
وللتخلص من المأزق، أطلق الكاظمي سلسلة من المقاربات الفولكلورية، بهدف امتصاص غضب الناس. استقبل أسرة الصحافي توفيق التميمي بعد شهور طويلة من اختطافه، ووعدها بفتح ملف المختطفين. وأوعز لوزير داخليته باستقبال المختطفة، بعد إطلاق سراحها، لتطمينها وإخلاء مسؤولية الحكومة عن اختطافها. وواصل الإعلان عن استمرار التحقيق لمعرفة الفاعلين ومعاقبتهم، وحرص على أن يثبت عبارة "مهما كانت الجهة التي يرتبطون بها".
ولسوف تمرّ هذه الواقعة التراجيدية الجديدة، كما مرت واقعات أخرى مثلها من قبل، لكن أحد الناشطين آثر أن ينذر الكاظمي من مغبة ما يحدث: "عندما تكون الدولة مختطفة، يصبح كل فرد فيها مشروع اختطاف في أي لحظة، وقد تكون أنت الضحية القادمة إذا لم تتحرّك".