هل كان الإصلاح ممكناً في سورية؟
اليوم وقد دخلت الثورة السورية عنق الزجاجة، وبدأ الندب من بعض أقطابها العائمين على السطح، وراحوا يضعون اللوم على "الطليان" الذين لم يتدخلوا ليسقطوا النظام، ويسلموهم الحكم، تماماً كقول النظام بالمؤامرة الكونية التي يعد نفسه، الآن، منتصراً عليها، على الرغم من أن داعش والنصرة تحتلان ثلث مساحة سورية المدمرة، والخالية من أهلها، وثلثها الآخر بيد الكتائب المسلحة الأخرى، وما تبقى من مساحة تتقاسمه المليشيات الإيرانية ومن يأتمر بأمرها، كالعراقية واللبنانية والجيش (السوري) طبعاً. بينما يعيش الشعب السوري، سواء من هو في الداخل أم ممن هام على وجهه في بلاد الله، أسوأ أيام حياته!
في مثل هذه الأجواء، يطيب لبعضهم العودة إلى الماضي، لإعادة حساباتهم وتدقيقها، وكثيراً ما تترافق العودة بالحنين لما كان قائماً، وقد يخطر لبعضهم، أن يتساءل بسذاجة: وهل كانت الأوضاع السورية بحاجة لأكثر من إصلاحات، ولو أنها حدثت لجنبت الشعب السوري معاناته! هكذا بالبساطة تنزع عن الثورة مشروعيتها وأسبابها، وانطلاقاً من ذلك أسأل، لا بسذاجة طبعاً، بل بالوعي والجدية كلهما، عن تلك الـ"لو": هل كان الإصلاح ممكناً؟ أو هل الأبواب مشرعة أمامه؟ وفي الإجابة أقول:
لطالما خضت والخائضون في الوضع السوري، وفي مشكلاته المتراكمة، اجتماعياً واقتصادياً، مستعرضين مواقعها في مفاصل الدولة، بادئين بمؤسسات الدولة المختلفة، الخدمية منها والإنتاجية، وبمعاناتها المرة منذ البدء بتعيين إداراتها، والتمييز الذي يحصل لدى التقدم إلى وظائفها، ثم تضخم العمالة في ربوعها، ما ينعكس على إنتاجيتها (قدرت دراسة أن إنتاجية العامل السوري خلال الساعات الثماني هي ثلث ساعة فقط، قياساً إلى العامل الياباني، ما يعني أن ما ينتجه السوري في ثماني ساعات ينتجه الياباني في ثلث ساعة)، ناهيكم عن تعرض تلك المؤسسات إلى النهب والتخريب المبرمجين، وما يترتب على ذلك من هدر للأموال وتراجع برامج التنمية، وما زاد في الطنبور نغماً تزايد البطالة، وخصوصاً بين الخريجين. وتراكم ثروة البلاد في أيدي قلة من المقربين بإرادة الحاكم بالطبع. وثمة أمور كثيرة لا يتسع لها المجال، وكلها تقود إلى سؤال كبير: ما الحل إذا كانت المنافذ المتاحة، كالإدارة المحلية والنقابات ومجلس الشعب وغير ذلك من المؤسسات الصورية التي تقدم لها العرائض الطويلة والمذكرات متقنة الصناعة والسبك؟
كثيراً ما كانت بعض أحزاب الجبهة تفاخر بمثل هذه الأعمال النضالية التي، في حقيقتها، ليست أكثر من شكل يخفي في ثناياه التهرب من المسؤولية التي تتطلب وجود الديمقراطية السياسية، الممثلة في أحزابها الفاعلة على صعيد العمل الوطني. وهنا تخطر ببالي حادثة أوردها يوسف الفيصل، أمين عام أحد فصائل الحزب الشيوعي السوري، في كتابه: "ذكريات ومواقف" الجزء الثاني، (ص 25) أنقلها لدلالتها على طبيعة النظام، على الرغم من أن الحادثة جرت أوائل عام 1971، أي أن النظام قيد التأسيس، وأن للحزب الشيوعي الذي كان موحداً، ذلك التاريخ، فعاليته الداخلية والخارجية. يقول يوسف الفيصل: بدأت القيادة القطرية ومجلس الوزراء حملة واسعة من الدعاية ليوم انتخاب رئيس الجمهورية، وكان المرشح الوحيد هو الرئيس حافظ الأسد. وعندئذ بدأت حملة الألقاب: الرفيق القائد، قائد المسيرة، الرفيق المنقذ... وتم تنظيم جولة للرئيس إلى محافظات القطر، وتنظيم استقبالات جماهيرية واسعة له، وذبح الخراف عند قدومه، وخروج جماهير العمال والفلاحين والأحياء بالأعلام والرايات لاستقباله. وكان يلقي خطبة في كل محافظة يزورها. وقد رافقته في زيارة مدينة حمص، وتابعت ما جرى فيها. وكانت الصحف اليومية و
البرامج الإذاعية مركزة في هذه الحملة على المؤهلات والقدرات الكبيرة التي يتمتع بها الرئيس الأسد.
هذه الحملة التي استمرت طوال أشهر، أحدثت تساؤلات لدى أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية. وكان السؤال: لماذا هذه المبالغة؟ هل تتم بمعرفة الرئيس؟ وهل يتابع صداها بين جماهير الشعب والمثقفين خصوصاً؟ هل هناك محاولة للإساءة للسيد الرئيس؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحت ونوقشت، وتقرر إجراء لقاء مع الرئيس والحديث معه حول الحملة الدعائية، وما تتركه من آثار. وبحث المكتب السياسي ذلك، وقرر تكليف الوزير يوسف الفيصل بإجراء لقاء مع الرئيس والتحدث معه في الموضوع والإشارة إلى بعض السلبيات.
طلبت لقاء مع السيد الرئيس، فوافق. وكنت أفكر في الشكل الذي سأتناول به المسألة، ومن أين أبدأ. ولم أكن غريباً عن السيد الرئيس. فقد قمت مع الرفيق خالد بكداش بزيارته في بيته أكثر من مرة، عندما كان وزيراً للدفاع. جلسنا في زاوية من الغرفة، وقال لي الرئيس: تفضّل ماذا عندك؟ وكنت مستعداً لذلك، وقلت للسيد الرئيس: سيدي نحن نقدر دور الفرد في التاريخ، ولدينا نظرية كاملة في هذا الشأن طرحها بليخانوف، فللفرد دوره بقدر ما يعكس إرادة الجماعة. وانعطفت على موضوع الحملة الانتخابية. تحدثت نحو خمس عشرة دقيقة، وعندما توقفت. سألني: هل لديك شيء آخر؟ قلت: لا. وأعلن إنهاء المقابلة.
خرجت مثقلاً بالجو الذي ساد المقابلة وبصمت الرئيس، ونقلت ذلك إلى أعضاء المكتب السياسي.
بالطبع لم يقم الحزب بأي موقف، إلا عبارة واحدة سرَّبها لأعضائه، نقلت، حينئذ، عن خالد بكداش، وكان أميناً عاماً للحزب كله، وهي: "إن هذا النظام (نظام حافظ الأسد) ديكتاتوري من نوع خاص"، وربما قيلت تبريراً لتعاون الحزب الشيوعي مع نظام أتى إلى السلطة بانقلاب عسكري، وهو الحزب الذي لم يؤيد أي انقلاب سابق. لكنَّ منهل الحزب الفكري والسياسي الذي هو السوفييت كان مع ذلك الانقلاب الذي وافق على "مبادرة" وليم روجرز وزير الخارجية الأميركية الموضوعة آنذاك على طاولة الدولتين العظميين أمام تخوف إسرائيل من استمرار حرب الاستنزاف التي أعقبت هزيمة 67 وتوسعها إلى حرب تحرير شعبية، على غرار ما كان حاصلاً في فيتنام، أو ما قد حصل في كوبا، وفي بلدان أخرى كثيرة.
ما أردت قوله: إن كل المبادرات التي كانت تقدم لإصلاح ما يمكن إصلاحه كانت تصطدم بجدران النظام الصماء. لأن حل الأزمة السورية سياسي محض، فالتناقض الأساسي كان بين النظام وحرية العمل السياسي الواسع. ولذلك، كانت صرخة الحرية التي أطلقها المتظاهرون السلميون شاملة ومعبرة تماماً عما تحتاجه سورية، ويتطلع إليه السوريون. ويؤكد هذا الكلام فكرة أوردها باتريك سيل، في كتابه "حافظ الأسد/الصراع على الشرق الأوسط"، مفادها خلاصة استخلصها سيل، من حواره مع الأسد الأب: "حافظ الأسد يرغب في الديمقراطية، لكنه يخشى، إن هو حلَّ عزقتها ديزيماً واحداً، ألا يعود قادراً على ضبط إيقاعها".
ومن هنا، ومهما يكن من أمر ما آل إليه الحراك السوري، لا مناص من الاستمرار فيه، حتى وإن كان هناك حل سياسي ما تفرضه مصالح القوى الداخلة في الصراع، محلياً ودولياً. إذ لا حل للأزمة السورية وأسبابها التي تضاعفت وتعمقت، إلا بإزالة التناقض الرئيس بتجسيد شعار الحرية الذي رفعه أحرار درعا منذ أربع سنين، تجرع خلالها الشعب السوري ألوان البؤس والشقاء، ولم يزل.