19 ابريل 2021
هل نضال المسلمين إسلامي بالضرورة؟
لا يكفي أن يكون المرء مسلماً لكي يكون إسلامياً. لو كان المسلمون إسلاميين، لما كان هناك أي مجال لأي خيار سياسي، أو إنساني، أو وطني، غير إسلامي في أي موقع، أو مكان، من ديار المسلمين. بل إن نقد الإسلاميين المسلمين يخبرنا أن هؤلاء ليسوا إسلاميين، ويقول لنا إن مصائبنا تنبع جميعها من أن المسلمين غير إسلاميين، ووجود قلة من الإسلاميين وسط بحر محيط من المسلمين.
لكن الإسلاميين، عنيت أولئك السياسيين والمذهبيين الذين ينسبون العصمة لكل ما يقولونه، ويفعلونه، بحجة أنه ينطلق من الدين الإسلامي، ويعبّر عنه تعبيراً سياسياً وشرعياً، لا يأتيه الباطل من بين يديه، أو من خلفه، لا يحملون نقدهم للمسلمين على محمل الجد، لكونهم يزعمون أنّ كل مسلم إسلامي بالقوة أو بالفعل، وأن من حقهم التحدث باسمه، بالطريقة التي يقررونها هم، من دون العودة إليه، أو استشارته، ومعرفة رأيه في ما يقولونه نيابة عنه، إما لأن هناك مزاجاً إسلامياً متطابقاً وموحداً في نفس كل مسلم وروحه وعقله، أو بالعكس: لأن كل مسلم إسلامي رغماً عنه: بالفطرة أو بالطبيعة أو بالضرورة. لذلك، يحق للإسلاميين اعتباره منهم، وإن ناقضت خياراته خياراتهم، وآراؤه آراءهم، ومواقفه مواقفهم، فلا بأس عليهم إن هم تكلموا باسمه، ونيابة عنه، حتى إن أخبرتهم أفعاله وأقواله إنه ليس منهم. هكذا، تراهم يعطون أنفسهم حق تقرير مواقفه، بعد شطب حقه في تقريرها بنفسه.
ولعل أكثر الأمثلة فظاعةً على هذا موقف بعض إسلاميي مصر من زوجة المفكر الراحل، نصر حامد أبو زيد، الذين رفعوا دعوى لتطليق زوجته منه، بالنيابة عنها، وضد رغبتها، بحجة أنها مسلمة ومتزوجة من مشرك أو كافر، لا فرق، ضاربين عرض الحائط بإعلانها مرات متكررة أنها تشاركه آراءه، وتتبنى ما يقوله ويتخذه من مواقف، وتختلف كل الاختلاف مع من يضطهدونه، ويدّعون النطق باسمها، ويفرضون عليها "حقاً" لم تطالبهم به، بل قاومته، هو الطلاق ممن تحب.
لا يكفي أن يكون المرء مؤمناً بمذهب، حتى يكون عقائدياً وأيديولوجياً في ترجمته على الصعيد السياسي، أو يتمكن من ترجمة عقيدته إلى مواقف سياسية، تتفق مع طابعها وتمثلها، أو يتفق سياسياً مع شركائه في العقيدة. لو كان الأمر كذلك، لما كانت هناك آراء متنوعة داخل المسيحية أو الإسلام، ولكان رأي الخلق جميعهم من رأي قلةٍ من المقدّسين الناطقين باسم الدين، بينما يعلم كل من يعمل في الشأن العام أن هناك فاصلاً يصعب تخطّيه بالنسبة إلى معظم الناس، يقوم بين معتقدات المرء ومواقفه المباشرة التي تتصل بمجالات مستقلّة، أو منفصلة، أو بعيدة عنها. ومع أن أغلبية المسلمين الساحقة يدّعون الإيمان بصحة دينهم، فإن معظم هؤلاء لا يطيعون دوماً ما يأمرهم به. في المقابل، تؤمن قلة منهم بما يقوله الذين يترجمون تعاليم الإسلام، ونواهيه، إلى مواقف مباشرة، تتصل بمسائل سياسية وحياتية، ربما لأنها تنتمي إلى مجال غير إسلامي، أو ديني، أو مقدس، من حيث طابعها أو مسارها ونتائجها.
الواقع السياسي والعصمة
لا أتحدث هنا عن الإسلام خاصة، والدين عامة، بل عن علاقة من ينطقون سياسياً باسمه معه من جهة، ومع الواقع من جهة أخرى، وأتحدث كذلك عن المصادرة المزدوجة التي تجعلهم يرون توافقاً يبلغ حد التطابق بين ما يقولونه والمقدس، دينياً كان أم أيديولوجياً، (للأيديولوجيا سمة شبه مقدسة عند التقدميين والعلمانيين أيضاً) وبينه وبين الواقع السياسي والاجتماعي والإنساني: المتحرك والمتغير بلا انقطاع. وأتحدث عن البشر الذين يتعاملون مع الشأن العام، فيخطئون ويصيبون، لكنهم يدّعون العصمة لما يفعلونه، باسم عصمة أخرى، لا علاقة لها بالسياسة وبهم، هي عصمة الدين. ثمة هنا مشكلةٌ، يجب الانتباه والتنبيه إلى خطورتها على الدين والدنيا، في حقبةٍ مفصليةٍ من تاريخنا، تشهد بدايات جديدة أو مختلفة، أو هكذا تريد أغلبية مجتمعاتنا لها أن تكون، فلا مجال فيها لأخطاء تأسيسية، كنسبة أفعال البشر إلى مقدساتٍ ومجالاتٍ فوق بشرية، وإضفاء العصمة على ما يحتمل الخطأ، ومعاداة الآخرين، بمن فيهم المسلمون، باسم الانفراد بالحكمة والإلهام، مع أن التجربة الواقعية تبيّن لهم، ولغيرهم، أن مواقفهم حمالة أخطاء، وأنها في النهاية مواقف بشرٍ، يستحيل أن يمتلكوا الحقيقة بمفردهم، وإلا لكانوا آلهة.
لا تنتمي أفعال الإنسان كلها إلى المجال الديني. هناك أفعال كثيرة تنتمي إلى مجالات دنيوية، تعيّن سلوك الإنسان ومواقفه، تضمر مصالح مادية ومعنوية، ليست من الدين في شيء، مع أن موقف المرء منها قد يتأثر بمكونات روحيةٍ، أو فكريةٍ، عقائدية أو مذهبية. لو أردنا ضرب مثال على ذلك لوجدناه في ما يسمونه الثورة الوطنية والديمقراطية التي يمكن لجوانب منها أن تتعين بالوعي الديني لمن يشتركون فيها، لكن هذا لا يكفي لجعلها دينية. من هذه الثورات تلك التي تجري اليوم في العالم العربي، وينخرط فيها ويحملها المسلمون، من دون أن تكون إسلامية، بل ومن دون أن يكون من المطلوب، أو الجائز، تحويلها ثورات دينية، أولاً: لأن من المحال القيام بثورة إسلامية ثانية، بعد الثورة العظمى التي قادها الرسول الأعظم بقوة وحي إلهي وإرشاده، يستحيل أن يتوفر اليوم للثورات أو لمن يقومون بها، ما دام الوحي قد انقطع، بعد اكتمال رسالة الله إليه.
صحيح أن مبادئ الدين يمكن أن توجه القائمين بالثورة، لكن هذا لا يبطل المشكلة التي أشرت إليها في البداية، والمتصلة ببشرية قراءة هذه المبادئ، وبمطابقة هذه القراءة الدين، وهي تكاد تكون مستحيلة بدورها، ما دامت تطبّق على واقع غير ديني، وأحداث غير مقدسة، ليس للدين برنامج محدد، أو مسبق، فيها، ولا مفر من أن يكون برنامج المؤمنين حولها بشرياً، مع احتمال جدّي في أن لا يكون مطابقاً لأصول الدين، بل ومناهضاً لها، مهما حسنت النيات وصدق الإيمان. وثانياً، لأن في الثورة قوى وأفكاراً وتيارات أخرى، ديمقراطية وعلمانية، لا ترى في القراءة الإسلامية للواقع ومجرياته تعبيراً عنها، بل تعتبرها مغايرةً لمقاصدها وإرادتها. وثالثاً، لأن الدين محل اتفاق بين معظم البشر، بينما السياسة محل اختلاف شديد بينهم، فيخشى أن تنتقل اختلافاتهم السياسية إلى مجال الدين، لتؤثر سلباً فيه، أو تجعله محل خلاف، بسبب خضوع "السياسات الدينية"، أو التي يزعم أنها كذلك للأخذ والرد، وتعرّضها للنقد والتسفيه، مع ما يمكن أن يفضي إليه ذلك من صراعاتٍ، تزيد من تسميم المجال السياسي ذاته، المسموم بطبيعته في بلداننا. في هذه الحال، تتحول خلافات السياسة إلى خلافات مع الدين وأصحابه، وتترتب عليها نتائج مدمرة لا حاجة لأحد إليها.
محاولة أسلمة الثورة السورية
لم تكن انتفاضة الشعب السوري إسلامية في بدايتها، وهي ليست إسلامية اليوم أيضاً، وإن كان هناك من يعمل لأسلمتها، متجاهلاً أن محاولته لعبت، وتلعب، دوراً خطيراً في حرمانها من دعم شديد الأهمية وحاسم، كان يمكن أن يقدمه لها غير المسلمين من أتباع الأديان والمذاهب الأخرى، الذين يشكلون قرابة ثلث المجتمع السوري، بالإضافة إلى العلمانيين من مسيسين وغير مسيسين، الذين يشملون قطاعاً واسعاً جداً من المواطنات والمواطنين، بما يجعل رقم المجموعتين يصل إلى نيّف ونصف المجتمع. تبرز هذه الواقعة الضرر الذي ترتب على محاولة أسلمة الحراك الثوري الذي تعاظم إلى أن بلغ حد الأزمة، بعد تلاشي نهج التمرد السلمي لصالح نهج السلاح، والذي أخرج، بدوره، شرائح شعبية وازنة من الشارع، مع ما عناه ذلك من تبدل في هوية الحراك الوطنية والمجتمعية العامة، وتحولها إلى هوية أخرى، يغلب عليها الطابع الجزئي، الطائفي والمحلي أساساً، الذي ليس طابعاً مجتمعياً وجامعاً، ويمثل الانجرار إليه انتصاراً جدياً لخطط النظام، الذي عمل منذ بداية الحراك على تحويله عن هويته، حراكاً شعبياً جامعاً، هدفه الحرية والبديل الديمقراطي، واستخدم قدراً عظيماً من العنف ضد المواطنين، كي يدفع بعض قطاعاتهم إلى حمل السلاح، ونجح.
وإذن، لا تعني محاولات أسلمة الحراك أو علمنته أو تحزيبه غير العمل، بقصد أو من دون قصد، لتجزئته وإضعافه، مع ما يحمله ذلك من احتمالات إفشاله. والسبب: لا يستطيع أي تيار، أو حزب، أو توجه، أن يسقط بمفرده نظاماً شمولياً، كالذي يحكم سورية. ولا بد من أوسع وحدة ممكنة بين مكوّنات الجماعة الوطنية، وتعبيراتها السياسية القديمة والجديدة، الحزبية والشبابية الناشطة في الساحة، إذا كان يراد إقامة الظروف التي تتيح التخلص منه. لذلك، لا بد من النظر إلى أية سياسة جزئية أو حزبية أو أيديولوجية أو مذهبية، باعتبارها أمراً لا يتفق مع الهدف الذي يعلنه: التخلص من النظام، ولا يتمكن من تجنب قدر كبير من الضرر الذي يلحقه، أراد ذلك أو لم يرده، بالنضال في سبيله.
يحتّم هذا المنطلق، إذا كان صحيحاً، تأجيل جميع الرهانات الخاصة والجزئية، وكبح جميع سخافات الصراع على مرحلة ما بعد النظام التي تدمر الحراك الوطني والمجتمعي، ولا بد من تركيز جميع الجهود على التناقض الرئيس مع النظام، وتأسيس مواقف موحدة، وصادقة، بشأن كل ما يتعلق بمصالح النضال المشتركة، والإقلاع عن تأميم الحراك، وإضفاء طابع مذهبي عليه، بحجة كاذبة، ترى في كل مسلم إسلامياً، بل ومنتسباً إلى جماعة إسلامية محددة، وتحويل ما يجري في سورية إلى صراعات بين طائفتين، أو طوائف، والتمسك بالسلمية نهجاً وحيداً، لأن قوة الحرية لا تنبع من فوهة البنادق، بل من أخلاقيتها وشرعيتها وعدالتها، وكونها خيارَ بشر يتفق مع إنسانيتهم من جهة، ومع مسار التاريخ والتطور من جهة أخرى، والدور الذي لعبه الدين فيهما كليهما، من دون أن يكون برنامج حزب أو رهان سياسة.
تمر سورية في ثورة شاملة، حتمتها شمولية نظام وحّد صفوفه ووسائله، تواجهه المعارضة، بتمزقها وفرقتها وجزئية حساباتها، وتتصرف كأنه لا توجد في سورية انتفاضة تقدم يومياً مئات القتلى والجرحى والمعتقلين والملاحقين، وتعمل أطراف منها بعقليةٍ ترى أنه لا حق لغيرها في وجود أو نشاط، لأن المسلمين إسلاميون، ولا خيار لهم غير السير وراءها، والامتثال لرغباتها وأوامرها، فهي تمثل، وحدها، مجمل المجال السياسي والمجتمعي، ومن ليس منها لا يجوز أن يكون موجوداً فيه إلا كعدو.
ألا تضيّع هذه العقلية تضحيات السوريين اليوم، كما ضيّعتها في الأمس؟