هل يبقى الحراك اللبناني مطلبياً ومدنياً؟

26 نوفمبر 2019
+ الخط -
كتب الباحث والسياسي الأميركي صموئيل هنتنغتون في مقالته "صراع الحضارات": "الغرب لا يواجه تحديًا اقتصاديًا من أحد، وقراراتُ الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، تعكس، بطريقةٍ أو بأخرى، مصالح الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وإن جاءت متنكرة باسم "المجتمع الدولي"، بغرض إضفاء الشرعية على قراراتٍ تصب في مصلحة الولايات المتحدة بالدرجة الأولى؛ إذ تستعمل الدول الغربية مزيجًا من القوة العسكرية والمؤسسات الدولية وترويج قيم الديمقراطية والليبرالية لحماية مصالحها وضمان هيمنتها على إدارة العالم". يعقب هنتنغتون بالقول: "هذه هي نظرة غير الغربيين على الأقل، وفيها جانب كبير من الحقيقة".
ونحن يحق لنا القول إنّ في قوله "جانبًا كبيرًا من الحقيقة" أيضًا، إذا ما نظرنا بصورة استرجاعية للعقود التي خلت، خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي انقسمت فيها أوروبا بين معسكرين، واحد تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي وآخر حليف للولايات المتحدة وما نجم عنها من صراعات تحت مسمى الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته وتفتت دول أوروبا الشرقية ورسم خرائط جديدة لها، ثم التحاقها بمنظومة الاتحاد الأوروبي والدول الحليفة لأميركا.
أمّا بالنسبة لنا، شعوب المنطقة العربية التي تشهد انتفاضات شعبية وحروبا وانهيار أنظمة 
وانهيار مجتمعات ودول على وشك الانهيار، فلم نكن بعيدين عن تلك الصراعات العالمية، وما زلنا في قلب دوامة النظام العالمي ندور مع دورانه في تحوّلاته التي تجري بإدارة صراعات وحروب في أكثر من منطقة في العالم، وفي منطقتنا تحديدا. أظن أن هذا الواقع جلي وبديهي، ومن الجدير بشعوب هذه المنطقة أن تلتفت إلى هذا الواقع شديد الوضوح في طريق ثوراتها على أنظمتها بكل أشكالها، ومن الجدير بها أيضًا أن تستفيد من تجارب بعضها بعضا، ولها في الأزمة السورية دروس كثيفة يمكن اتخاذها معيارًا للنقد الذاتي، وتجنب المطبات والانزلاق إلى أماكن الخطر التي تودي بالشعوب ومنجزاتها، وتدمر الدول والأوطان، كذلك العراق الذي يدفع شعبه الثمن منذ العام 2003 بسبب التدخلين الخارجيين، الأميركي والإيراني، بشكل خاص، غير ما دفع سابقًا في مقارعة نظام صادر حريته وقراره عقوداً.
أما بالنسبة إلى الشعب اللبناني الذي ينتمي حراكه إلى الجيل الثاني من الانتفاضات العربية، فإنه حراك مطلبي بجدارة، على خلفية تدهور الحياة العامة للناس واستفحال التردّي الاقتصادي والمالي ووصول لبنان إلى حافة الانهيار بسبب الديون وإفلاس الخزينة تقريبًا، هذه الحالة كانت نتيجة مرحلة امتدت من التسعينات، اعتمدت في سياساتها المالية والاقتصادية على الاستثمار بالدين العام بفوائد مرتفعة، استفادت منها شريحةٌ محددةٌ من اللبنانيين، أغلبهم مستثمرون في مجال العقارات أو الأسواق المالية والبنوك، ما جعل الاقتصاد يزداد ضعفًا، بلد ضعيف بلا 
إنتاج، غير قادر على تأمين الحد الأدنى من حقوق الشعب، أوصل هذا الحال لبنان إلى الأزمة الحالية التي انتفض الشعب بسببها، وهو يسجل اليوم حراكًا مدنيًا يُشهد له، وترنو إليه بلهفة غالبية الشعوب العربية، خصوصا التي أخفقت انتفاضاتها ولم تستطع تحقيق ما تصبو إليه.
إذا حافظ الشارع اللبناني على سلمية انتفاضته، وعلى مدنية حراكه بالشكل الجميل المحب للحياة، وبقي حراكًا مطلبيًا، فإنه سيكتسب قوة وزخمًا أكثر، وسيقترب من أهدافه أكثر. أمّا إذا انحرفت المطالب عن أهدافها المطلوبة والملحّة، وانزلقت إلى المطلب السياسي، فربما تنزلق البلاد نحو المجهول، وما أكثر المجاهيل المعلومة في محيطنا وشرقنا المتوسط، فاللاعبون كثر. وعلى مبدأ هنتنغتون، ما قدمه المجتمع الدولي والعالم الغربي للشعب السوري لم يكن غير التدمير والتجويع والتشريد والتهجير. كما أن أداء الدول الإقليمية صاحبة المصالح والمطامع في سورية لم يكن أفضل، بل ساهم الجميع في تدمير سورية التي باتت دولة بلا جغرافيا وشعبا مشتتا على أوطان افتراضية.
أطلق الحراك اللبناني على يوم الأحد الماضي (أول من أمس، 24/11/2019) تسمية يوم التكليف، ودعا إلى التظاهر أمام السفارة الأميركية رفضًا للتدخل الخارجي بشؤون لبنان، خصوصا بعد زيارة السفير الأميركي السابق، جيفري فيلتمان، لبنان من أجل عرض صورة عن الاحتجاجات أمام اللجنة الفرعية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التابعة لمجلس النواب الأميركي، والتصريحات التي أدلى بها عن دور الجيش اللبناني وإملاء نصائحه بما عليه وعلى اللبنانيين أن يفعلوا، فاللبنانيون المنتفضون سلطوا الضوء باكرًا على السياسات الاقتصادية للحكومة، وعلى السياسات المالية لحاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، وطالبوا الحكومة الحالية بالرحيل، لأنها تمثل مرحلةً تجذرت في الفساد، وجذّرت المحاصّة الطائفية، لتمكين سياساتها وحماية مصالحها، ولكن الشعب اللبناني قالها بصراحة "كلّن يعني كلّن"، 
والحراك مطلبي، ولا يريد أكثر من أن يزيح النظام القديم عن السلطة، ويأتي بنظام بدماء جديدة، نظام على قطيعة مع الماضي وأسسه وأحزابه ورموزه.
هذه الانتفاضة هي منتج طبيعي للتغير الاجتماعي السريع في مقابل أنظمة ومؤسسات سياسية متكلسة، أو مترهلة، لم يعد لديها ما تقدمه لمواجهة المشكلات المتفاقمة التي أوصلت البلاد إليها. وهي، في الوقت نفسه، لا تريد التنازل عن إدارة المستقبل، حتى بعد كل هذه الأزمة في الثقة التي يصرّ عليها الشارع. لم تكن الطبقة السياسية الحاكمة مستقلة فيما مضى، حتى تكون مستقلة في المستقبل. كانت غالبيتها مرهونة للخارج، أو محتمية تحت غطائه، لكل ولاءاته.
لكل شعب تجربته في انتفاضته وبصمته في التعبير، كما لكل نظام أسلوب تعاطيه مع حراك شعبه وطريقة معالجة الموقف. ولكن ما يميز التجربة اللبنانية إلى الآن، ونرجو أن تستمر هكذا حتى يحقق الشعب جلّ مطالبه المحقة، أنه شعب نصيرٌ للحياة، متمسّكٌ بنصيبه منها، وهذا يشكل رافعة مهمة لانتفاضته. شعب عجنته الحروب وأمرّها وأقساها كانت الحرب الأهلية التي أودت ببلاده إلى مشارف الهلاك، وقتل فيها اللبنانيون بعضهم بعضا، مدفوعين بإرادة زعامات طائفية تقاسمت الشعب مثلما تقاسمت السلطة، لكنه، أي الشعب، حتى في ذروة تلك الحرب، والمخاطر التي كانت تتربص بكل فرد في أي لحظة، في ظل استعار الجنون الممسك بالسلاح، لم يتنازل عن حصته في الوجود والحياة كما يفهمها ويحب أن يحياها. نتمنّى للحراك اللبناني أن يبقى مطلبيًا، ويبقى على زخمه وروحه العالية.
دلالات