هنا، وعلى بعد ساعة من العاصمة الهولندية أمستردام، مشت سيارتنا في لوحات من الطبيعة تكشف سر إلهام فناني عصور النهضة، طبيعي أن يخرج فان غوخ أو رمبرنت كفنانين من هولندا، طبيعي أن لا يخرجوا مصارعين مثلاً، طالما لديهم كل هذا الجمال المرسوم بإبداع الخالق.
مدرسة كبيرة في وسط غابة لا تنتمي للمدينة إلا بشارع طويل بين الشجر يمر منه المهاجرون جيئة وذهاباً إلى دكان قريب على أرجلهم، عيونهم تترقب هيبة الطبيعة وسيارتنا تقطع هذا كله لتكون محط أنظارهم.
هنا جامعة العرب الناجين، ترحيب صومالي وآخر عراقي يخفي وجهه ويسبقنا للأعلى مكتفيّاً برد السلام، وطفلان سوريان يراقبان وجوهنا وأيديهم مشبكة ببعضها بعضاً. صعدنا درجاً ثم آخر حتى وصلنا إلى بيتهم المؤقت. غرفتان وسرير وأغراض مكدسة تنتظر الرحيل. هروبهم من قصف بشار على مخيمهم، ركوبهم مضطرين البحر هرباً من إهانات "إخوتنا العرب". ثم وصولهم بعد رحلة طويلة هنا إلى هولندا، التي احتضنتهم، أخيراً، بلا شروط ولا نقاش. كان فاتحة الكلام بعد السلام.
جلسنا على جانب السرير لنكشف من شباك ساحة للعب الأطفال في وسط المعسكر وعند فتح الجرح.. بسؤالي.. ما القصة؟
قوبلت بتأتأة وتجهم وكتم للبكاء عند ذكر البحر. انفجار بعشرات القصص التي تروي حجم النصب والذل الذي تعرضوا له. معاودة للنكتة والضحك عند ذكر بعض المواقف الطريفة مع الشرطة الإيطالية والتي صارت لهم ذكريات. كلها محاولات من أنفسهم لتأكيد الواقع، نحن الآن وأولادنا بأمان هنا في هولندا أخيراً.
تتكرر جملة "الإصرار على الحياة"، هذا ما يدور ببالي، وعلى لساني، وأنا استمع لتفاصيل قصتهم، يا لهذا الشعب الجبار الحائز على أول كف في كل معركة عربية ويصر على النجاة بكرامة.
الأول مهندس طيران والثاني محامٍ والثالث فنان مسرحي، جميعهم قلبت عليهم الأحداث طاولة الدنيا مؤكدين لي أن لا مانع لديهم من الموت في سورية التي يحبون، إلا أن بقاء أولادهم لأكثر من عامين بلا تعليم ولا طعام ولا عمل، وسد العرب الأبواب في وجوههم أجبرهم على ركوب الهول. فتح لي جواله وقلب صور المركب والغناء والمفقودين فشقلب الدموع من عيوننا.
ابنتهم بتول لا تكف عن الكلام والقفز في أرجاء المكان، تصف لنا البرد الغريب عليها هنا، ثم تحدثنا عن الحفلة التي تنتظرها تحت مع الأطفال و"سانتا كلوز" القادم إليهم اليوم، وها هي تبحث عن ربطة شعرها استعداداً للاحتفال وتغني. أما "تيم" فحتى اللحظة يختبئ تحت السرير كلما سمع صوت أي طائرة مدنية.
حان وقت الرحيل، بتول تغني ما تعلمت بالهولندية، والدها يبتسم، ودارت عيوني للمرة الأخيرة في أرجاء المكان، لساني لا يقوى اإا على تمني الخير والسلامة لهم، نغادرهم وفي إنسانيتنا شك..
(فلسطين)