في كتاب "بنات السياسة" الصادر عن "دار زنوبيا" (تونس، 2020)، تجمع الكاتبة العراقية هيفاء زنكنة ستَ شَهاداتٍ عن الاعتقال والعمل السياسي، لمُناضلات تونسيّات من حركة "برسبكتيف-العامل التونسي" التي كانت ناشطة في سبعينيات القرن الماضي. وتختلف اعتبارات المُشارِكات في المساهمة بتقديم تجربتهنّ، غير أنّ السرديّة النضاليّة برمّتها واحدةٌ من أساليب مقارعة الذاكرة للنسيان.
تشارك في سرديّة النضال كلّ من: آمال بن عبا، ودليلة محفوظ جديدي، وزينب بن سعيد الشارني، وساسية الرويسي، وعائشة فلّوز، وليلى تميم بليلي. تصف الشهادات بدرجات متفاوتة ثقافة الانتهاك، وعبر الوصف تُدين ممارسات العنف والإقصاء، وفي الآن نفسهِ ترسم مساراً مُوازياً للمقاومة والحياة.
يُمكن عبر تتبّع الأحاديث والحوادث المُشتَركة في الشهادات استنتاج ما عمل السجّان على تعزيزه أو تخريبهِ في نفوس المناضلات، وبشيءٍ من الترتيب يمكن أن نلخّص مشوارهنّ بدءاً من سرقة السكينة التي كنّ يعرفنها في منازلهن، وانتزاعهنّ من حيواتهن الطبيعية من الجامعة أو الوظيفة، من بين الطلّاب والتلاميذ، ومن بين الأحبّة.
العنف الجسدي هو القاسم المشترك الأكبر بين الشهادات
تصوّر المناضلات لحظة الاعتقال تصويراً مهيباً في جلّ الشهادات، إذ يصرخن بالحرية عند الاعتقال مثل دليلة محفوظ، التي بقيت تصرخ "أنا مواطنة حرّة" حتى أغمي عليها. وكذلك فعلت الرويسي، وهي تهتف ضد الحكم كي يعرف المتجمهرون بأنّ الاعتقال مرتبط بالسياسة وبأنّه قضية رأي عام.
يبدأ انتهاك الجسد مع الانكشاف أمام السجّان، إنّهن مجرّدُ أجساد عارية، أجساد مُعلّقة، أجساد نحيلة لنساءٍ ضعيفات أمام التعذيب والعنف الجسدي. وهو الجزء المشترك الأكبر بين الشهادات، يُضاف بالنسبة للنساء، انتهاكُ يأتي من ثقافة مُنْتَهِكَة، تَقبعُ خارج السجن، وتتسرّب إليهِ مع تسرّب صمت السجون الذي تقطعه الصرخات ونداءات الاستغاثة؛ وهو خشية النساء من أن يُغتَصبن.
تبرز في هذا السياق شهادة الشارني وقراءتها للتعذيب: "إنّ الذاكرة تستعيد العدوان والعذاب النّاجمين من سلطة تعاقب وتنشر الرّعب، فتسم ذاتك إلى الأبد. إنّ التعذيب هو شكلٌ من أشكال العبوديّة أو من الاستيلاء على الأفراد عن بُعد، وهو تملّك لنفسيّتهم المهتزة جرّاء تنشيط ذاكرة انتهاك الجسد". لربما ضمّت شهادتها الخطاب الأقسى حيال التعذيب كونها تعرّضت لأقسى أنواعه، وقد علّقت بعصاً بين يديها ورجليها، في ما يُعرف بـ"محنة الدّجاجة المشويّة".
تشتركُ النساء اللواتي يُقدّمن شهاداتهنّ عن تجربة الاعتقال، بأنّهنّ يعرفن حقوقهن. ما يجعل من سلبهن حقوقهن في الدفاع عن أنفسهن، وفي إيصال الأسلوب الذي عوملن وفقاً لهُ، انتهاكاً لمعرفتهنّ. وفي إنكار السجّان لممارساتهِ سطوة على الحقائق التي عبرنها أو عبّرن عنها. إنّ معرفتهن بحقوقهن كمعتقلات عززت لديهن شعورهن بالامتهان، فتجربة الاعتقال السياسي في بلدان قمعية، هي تجارب تهدف إلى محو المعتقل وجعلهِ منسيّاً.
على الرغم من التسمية التي تُطلق عليهن داخل السجون بأنّهن "بنات السياسة" وذلك لتمييزهن عن سجينات الجنايات الأخرى، ما كان يمنحهن شعوراً بالتميّز والزهو، فإنّ بوّاب السجن كان ينفي وجود معتقلات سياسيات أمام الزوار. لقد كنّ داخل السجن مختلفات لكن في الخارج يُراد ألا يكون لهنّ وجود تحت أية صفة نضاليّة. إنّهن مجرد أرقام في المعتقل، إذ تعي كلّ منهن أنّها قد فقدت اسمها، لا لكي تحصل على اسمٍ حركي يحميها من الملاحقة، وإنّما على رقم وظيفته محو شخصيتها.
ترتق الشعوب ذاكرتها الجماعيّة عبر سرديات مناضليها
لكن، وفي وجه كلّ ما سبق كانت تبرز في الشهادات -كما في حيوات المناضلات- ثقافة أخرى، سوف تتوّج بالكتابة، والتي تمثّل أعلى درجات وعي الحقوق. وهي ثقافة المقاومة، والتي تبدأ بالألفة ضمن العائلة، ومساعدة الناس لهنّ أثناء التخفّي والفرار من الملاحقات، ولدى الرويسي حكاية عن قريبها الشرطي الذي رآها في الحافلة وتحضّرت كي يسلمها إلى الشرطة، لكنه يحميها ما إن تصعد دورية الأمن إلى الحافلة، ويدّعي أنّه شقيق الرويسي. بذلك تعيدُ تجربة الملاحقة تشكيلَ وعي المُلَاحَق مجدّداً، وتعيد رسم علاقتهِ مع الأشياء أيضاً، لا مع الأشخاص فحسب.
تتعزّز ثقافة المقاومة في السجن أيما تعزيز، كما لو أنّ حرمانهن من الحريّة قد ملأهنّ بها، إلى جانب وعي المناضلات بحقوقهنّ وبطبيعة نضالهنّ، وعيهنّ بالسياق الذي أنجب حركتهنّ وبمسار تطوّرهنّ، أن تجد كلّ منهنّ نفسها ضمن تيارٍ أوسع، دفع إليهنّ الشعور بالقوة، وبالحتمية التاريخية التي سوف تنصفهّن.
كنّ يعرفن، وهنّ في السجن سبلاً بسيطة تساعدهنّ على الاستمرار، مثل تشارك تجاربهن، إلى جانب الإضرابات من أجل نيل حقوقهنّ كمعتقلات، وتحسين ظروف الاعتقال، والمطالبة بتواصلهنّ مع العالم في الخارج، عبر الرسائل، وقد وجدنَ من حرس السجن من يشعر بهنّ، ويساعدهنّ على التواصل في ما بينهنّ. إذ لا يمكن للعالم مهما بدا قاتماً أن يكون عالماً خالياً البتّة من التعاطف. حيثُ كان للسجينات شبكةٌ من العلاقات الرهيفة التي ساعدتهن على مواجهة ظروفهن القاسية. شبكة تبدأ بالكتب مع القراءة وتمتدّ إلى الرفيقات والرفاق، ومن ثمّ تنتهي إلى الآمال التي يخبّئها الغد. وهو الأمر الذي يظهر بعد عقود مع الثورة التونسية (2011). وقد حرصت شهادات عديدة على إظهار هذا الامتداد، كما لو أنّ بذار الرفض التي زُرِعَتْ على امتداد عقود قد نبتت في الظلّ ومن ثمّ أزهرت زهرة الغضب.
من جملة تساؤلات أثارها الكلام بعد سنوات الصمت، تتساءل عائشة ڤلّوز: "ما الذي سوف يحتفظ به التاريخ من محنة اليسار في زمن الظلم والاستبداد زمن السبعينيات؟" ثمّ تعود لتجد حكايتها مع حكايات صديقاتها، أقلاماً ترسمُ صورة تلك الحقبة، وتضعها في مكانها ضمن ذاكرة الجماعة، التي تتآلف داخلها حكايات الأفراد، لترتق الشعوب ذاكرتها الجماعيّة عبر سرديات مناضليها.