صباح السبت 29 تشرين الأول/ أكتوبر كان صحواً وربيعياً. حملت شنطتي الخفيفة وتوجهت صوب المحطة القريبة من سُكناي.
كنت قبلها قد استفسرت مطوّلاً عن اسم القرية التي سكنها أحمد شوقي (16 أكتوبر 1868 - 14 أكتوبر 1932)، خشية الذهاب إلى أخرى. فقد وردت هكذا: "فلفديرا"، في كتاب للدكتور شوقي ضيف خصصه عن الشاعر. وكان الكتاب ولما يزل هو المرجع اليتيم الذي وردت فيه إشارة إلى القرية بالاسم.
ركبت قطار الأنفاق الذي افتتح سنة 1905، ويسمونه هنا الـ "فِرّو كاريل"، ولا بد أن شوقي ركبه في تنقلاته، عندما استقر بالبلد.
في القطار استفسرت من غير راكب، فأشار الجميع إلى المحطة القادمة: "دياشادور" (Daixador).
نزلت فيها وسألت عجوزاً يتشمّس مع كلبه في طرف الحديقة المقابِلة، فاكتشفت أنني جئت إلى مبتغاي على طريقة "أين أُذنك يا جحا". فالقرية أقرب إلى محل سكني في "ساريّا ـ بيو ديل فونيكولار"، من هذا المكان.
المهم: صعدت ـ مثلما دلّني العجوز ـ درباً متعرجاً غير مسفلت (ممنوع على الأحصنة والدراجات النارية) حتى وصلت.
كان الدرب الحلزوني الطويل الصاعد في حالة ممتازة فلم أشعر بتعب.
Vallvidrera هناك في مدخل القرية الغربي، بجوار محطة بنزين مغلقة، وجدت الاسم مكتوباً، ومعناه أو أصله بالعربية: "وادي بِدريرا". المفارقة أن القرية معلّقة كالعشّ على رأس واحدٍ من سلسلة جبال كوليسيرولا (رئة برشلونة الثانية بعد البحر)، ولذا خصّصوا لها قطاراً آلياً معلّقاً بحجم باص، يعمل بحبال وبكَرات، نظراً للانحدار الشديد، وقد ركبته بالصدفة بعد كتابة هذه السطور، فبلغت هدفي خلال دقائق.
بمعنى آخر: إذا شارَف المرء قمة كوليسيرولا، حيث الكنيسة العتيقة وبرج الاتصالات العملاق (وهذان المعْلَمان يشرفان على جميع أحياء المدينة، إذ تستطيع رؤيتهما أينما كنت)، فإذا بلغت القمة ثم انحدرت قليلاً فستكون عندئذ على أطراف القرية. وبعد خطوات تصل إلى حيّها القديم فترتاح هناك على مقاعد الساحة الرئيسية.
فتنني تأمل الطبيعة فأوغلت داخل الغابة، ناسياً أنّ ثمة موعداً ينتظرني. وناسياً أن لا كلب معي ليقيني عواؤه من خطر مباغتة خنزير ضال وجائع، مع حرصي طوال التجوال، على السؤال كلّما لزِم، حتى أتممت مروري على أغلب الدروب والشوارع والأزقة.
وبعد سؤال العجائز خاصة (كم هم وديعون ومحبّون للثرثرة!) اتضح أن يد التغيير قد مسّت القرية مساً خفيفاً. ولعل السبب راجع إلى أنها منذ أُنشئت ـ قبل قرون ـ وهي مصيف للأثرياء وكبار الفنانين. أما الآن فهؤلاء يقيمون فيها طوال العام، ولا يبيعون بيتاً لمحدث نعمة طارىء، مهما دفَع.
إذاً فقد أحسن أحمد شوقي الاختيار، ذلك أن القرية تتمتع في الحقيقة بعدة امتيازات: منها أنه يمكنك في يوم صاف ومِن أمكنة محددة، رؤية جزيرة مايوركا شرقاً وجبال البرانس الواقعة على حدود فرنسا شمالاً. ناهيك عن الهدوء السابل بل السكون القارّ المُخيّم. حتى أنك تشعر بأن للصمت هنا وزناً يمكن تلمّسه باليد. صمت عتيق يتخلل ذرات الفراغ من حولك، ونادراً ما يقطعه نباح كلب بعيد. كأنك لست في ضاحية من ضواحي برشلونة، بل في ملكوت آخر.
أما هذا النور الأبيض وهذا الهواء الدسم وهذه الرائحة ذات الفوح الغابيّ الثقيل، فتذكّرك بأول الخلق وبكورة الأشياء.
إن فال فِدريرا (كما ينطقها العجائز)، وباي بِدريرا (كما ينطقها الشباب)، لا تبعد عن ميدان كتالونيا في وسط البلد سوى خمس محطات (ربع ساعة من الزمن)، ومع هذا كأنها لا تنتمي إلا لنفسها.
هنا يمكنك استرجاع مزاج القرون الوسطى. وإذا كان الحال هكذا الآن، فلك أن تتخيله قبل قرن، حين سكنها الشاعر!
إنها منتجع معزول، لا مجرد قرية. بيوت متناثرة كلطخات حمراء وبيضاء تتخلل الخضرة الكثيفة. بيوت مُشادة من صخر الجبل وكأنها جزء عضوي منه: يعلو سقوفها قرميد بهت احمرارُه بفعل تعاقب الدهور.
في شارع "كاسا فرانكا" المبلّط المنحدر، ثمة دارات مشغولةٌ أبوابها وشبابيكها بالمعدن المضفّر، كل واحد منها هو أقرب إلى قطعة فنية في حد ذاته. إنها عبقرية الحرفيين القدماء، التي استبدلتها أزمنةُ الربح السريع بكيتشها المبذول والمبتذل.
في مثل هذه المواقف ـ فقط ـ أؤنب نفسي لأنني مصرّ ألا أمتلك كاميرا تصوير أو حتى هاتفاً جوالاً حديثاً.
وبما أن النهار نهار عطلة وستعقبه يوم الإثنين عطلةٌ أخرى (الفاتح من نوفمبر، عيد"جميع القديسين"، أو "يوم تذكّر الموتى")، فقد خرج السكان القليلون إلى المقاهي المكشوفة، إضافة إلى رياضيين وزوّار ولاعبي كرة ودرّاجين هوائيين.
هي ليست قرية كباقي القرى إذاً، ولا شك في أن شوقي استمتع بسكناها طيلة السنوات الخمس التي أقامها في برشلونة (1914 ـ 1919)، وإلا لكان غيّر السكن.
إلى ذلك، كان لا بد من معرفة رقم بيته، ومن ثم تدبير أمر التقاط الصور. ففي هذا البيت كتب شوقي تلك القصائد التي قرأناها على مقاعد الدرس، ولم يزل بعض مطالعها عالقاً في القلب وعلى اللسان.
لكنني تذكرت العطلة فأجلت الأمر إلى متسع من الوقت، خاصة وأن مثل هذا الموضوع ليس بتلك الصعوبة، فما عليك سوى أن تعرف اسم الشاعر كما هو في الوثائق الرسمية، ثم تدفع 5 يورو رسْم استعلام لبلدية القرية، ومن حقك بعدها أن تحصل على المعلومة التي تشاء.
وإني واثق من أن وثيقة عقْد استئجار البيت مصونة في ملفات البلدية مثل غيرها من الوثائق، وأن بيت أحمد شوقي قائم وموجود في واحد من هذه البيوت والدارات التي مررت عنها أو توقفت أمامها متأملاً بسببٍ من موقعها أو نباتها الغريب أو طريقة البناء.
على أن ثمة مفارقتَيْن في سيرته يتوجب التنويه بهما، الأولى: أنه عاد إلى القاهرة دون أن يتكلم الحد الأدنى من اللغتين الشائعتين حوله: الكتلانية والقشتالية. وكما قال ولده حسين، في ما بعد: "كان يتكلم بعض الكلمات بشكل مضحك".
المفارقة الأخرى، ويقيناً لها وشائج بالأولى، أنه عاش اغترابه البرشلوني، وقتَ كانت المدينة مختبرَ الحداثة الأول في إسبانيا، في مناحي الحياة والفن كافة، فلم يصله من ذلك حتى الأصداء.
لقد كان معتكفاً فكتب أندلسيّاته وأعذب القصائد في الحنين إلى مصر والشرق.
ولربما هذا يكفيه!