المشهد الأول: معسكر خدمة العلم الأول في الوروار، في مارس/ آذار 2001. شمس الشتاء أكثر قرباً، والملابس الغارقة بالعرق، طوال أيام من التدريبات البدنية والقتالية المتواصلة في إطار الخدمة العسكرية الإلزامية في لبنان، تزداد وزناً. الخوذة الحديدية على الرأس والبندقية الآلية في اليد. السرية مكتملة العدد بعناصرها المائة والعشرين يجلسون القرفصاء ويُمنعون من إراحة ظهورهم أو حتى مؤخراتهم بتماس الجدران والأرض. هو درس قتال ربما لا يذكر أحد منه شيئاً الآن، لكنّهم يذكرون أنّ الضابط المحاضر المتخفف من سترته يضع قبعة عسكرية ونظارات شمسية ويقف تحت خيمة صغيرة، قال لهم: "لن تفهموا الدرس ما لم تتصببوا عرقاً، وما لم تكونوا في وضع القرفصاء".
هو قرر ذلك تبعاً لمنظومة ما تقارب المسائل العسكرية على هذا النحو. وطبعاً من الصعب اختبار ذلك الفهم المفترض لاحقاً، فهو مجرد درس في سنة كاملة مليئة بالدروس التي كان كثير منها عقيماً سواء على مستوى إعداد "المواطن الصالح" أو ترسيخ "التعايش الوطني".
المشهد الثاني: امتحان جامعي في قاعة يتكدس فيها أكثر من ثلاثين طالباً. لا جهاز تبريد فيها ولا حتى مروحة. حتى النافذتان لا تدخلان أيّ هواء في صيف بيروت القائظ. الجميع يتصبب عرقاً، فتختنق الوجوه قبل قراءة أسئلة الامتحان التي تزيد بعضها اختناقاً.
المادة اقتصادية تتحدث عن استثمار في التعليم ينتج ثروات لاحقة لعلّها أعظم من عوائد الاستثمار في قطاعات أخرى تجارية وصناعية وخدمية وغيرها. هي مقاربة أخرى تابعة لمنظومة بعينها تُسقَط إسقاطاً، ويُطلَب من الطلاب الإجابة في الامتحان على أساسها.
يجلس طلاب ربما لم يعرف بعضهم أيّ مدخول في يوم من الأيام، وربّما ما ينتظرونه من شهادتهم الجامعية مهما ارتفعت درجتها لا يتجاوز إمكانية الحصول على وظيفة درجة رابعة في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص.
إحدى النوافذ مفتوحة على برج سكني معروف في العاصمة اللبنانية يتجاوز سعر الشقة الواحدة فيه ستة ملايين دولار أميركي. وبينما يتصبب أحد الطلاب عرقاً فيعاجل إلى مسحه قبل امتزاجه بالحبر الذي صبّه فوق كرّاس الإجابة، يتنبّه إلى هذه المفارقة، ويحاول أن يطبقها على أساس تلك المنظومة المعتمدة، لكنّه يتوخى الأمانة في إجابته وقولبة الدروس التي تلقاها مع الواقع الاجتماعي الذي يعيشه مهما طُلب منه الالتزام بالمنظومة المعتمدة.
"شهادتي الجامعية ستتيح لي شراء شقة هنا في هذه الحال"... يسخر من الفكرة سريعاً، ويعزّي نفسه أنّ المشكلة في المادة حتماً وليست فيه، فالواقع وإن عاش هنا، لن يتجاوز الحلم بغرفة بواب ذلك البرج.
اقــرأ أيضاً
هو قرر ذلك تبعاً لمنظومة ما تقارب المسائل العسكرية على هذا النحو. وطبعاً من الصعب اختبار ذلك الفهم المفترض لاحقاً، فهو مجرد درس في سنة كاملة مليئة بالدروس التي كان كثير منها عقيماً سواء على مستوى إعداد "المواطن الصالح" أو ترسيخ "التعايش الوطني".
المشهد الثاني: امتحان جامعي في قاعة يتكدس فيها أكثر من ثلاثين طالباً. لا جهاز تبريد فيها ولا حتى مروحة. حتى النافذتان لا تدخلان أيّ هواء في صيف بيروت القائظ. الجميع يتصبب عرقاً، فتختنق الوجوه قبل قراءة أسئلة الامتحان التي تزيد بعضها اختناقاً.
المادة اقتصادية تتحدث عن استثمار في التعليم ينتج ثروات لاحقة لعلّها أعظم من عوائد الاستثمار في قطاعات أخرى تجارية وصناعية وخدمية وغيرها. هي مقاربة أخرى تابعة لمنظومة بعينها تُسقَط إسقاطاً، ويُطلَب من الطلاب الإجابة في الامتحان على أساسها.
يجلس طلاب ربما لم يعرف بعضهم أيّ مدخول في يوم من الأيام، وربّما ما ينتظرونه من شهادتهم الجامعية مهما ارتفعت درجتها لا يتجاوز إمكانية الحصول على وظيفة درجة رابعة في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص.
إحدى النوافذ مفتوحة على برج سكني معروف في العاصمة اللبنانية يتجاوز سعر الشقة الواحدة فيه ستة ملايين دولار أميركي. وبينما يتصبب أحد الطلاب عرقاً فيعاجل إلى مسحه قبل امتزاجه بالحبر الذي صبّه فوق كرّاس الإجابة، يتنبّه إلى هذه المفارقة، ويحاول أن يطبقها على أساس تلك المنظومة المعتمدة، لكنّه يتوخى الأمانة في إجابته وقولبة الدروس التي تلقاها مع الواقع الاجتماعي الذي يعيشه مهما طُلب منه الالتزام بالمنظومة المعتمدة.
"شهادتي الجامعية ستتيح لي شراء شقة هنا في هذه الحال"... يسخر من الفكرة سريعاً، ويعزّي نفسه أنّ المشكلة في المادة حتماً وليست فيه، فالواقع وإن عاش هنا، لن يتجاوز الحلم بغرفة بواب ذلك البرج.