انضمّ إلى "الحزب السوري القومي الاجتماعي" عند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975. كان في الـ18 من عمره حينها. أراد أن يَقتل ويُقتل. أراد أن يكون شهيداً، وبالتالي بطلاً.
اندلعت حرب الجبل بين أحزاب الحركة الوطنية من جهة، وبين أحزاب الكتائب والقوات والوطنيين الأحرار من جهة أخرى، في العام 1983. قصد والده. جاءه لا مستأذناً، وإنّما مودعاً فقط. حاول والده أن يثنيه. عتب الشاب عليه، وقال له: "سأرحل، وأعود إليك شهيداً".
بكى الوالد. لم يكن يريد ابنه شهيداً. أراده رجلاً. أراد أن يزوّجه، ويرى أولاده. لم تكن أحلامه كبيرة. كانت أحلاماً بحجم أي والد. تقتصر على ولدٍ يصبح رجلاً، له امرأة وأولاد وبيت صغير.
لم يرَ الشاب دموعَ والده. ربما رآها، لكنّه لم يبالِ بها. كانت أحلام "البطل الشهيد" أكبر من دموع الوالد. ولكن من قال إنّ هناك شيئاً في العالم أكبر من دموع الوالد.. أيّ والد. لم يودّع والدته. لم يجرّب حتى. يعرف سلفاً أنّ أمّه ستبكي. ويعرف سلفاً أيضاً أنّه سيضعف أمامها. يعرف أنّ ضعفها أقوى منه، وأقوى من بطولاته، وأقوى من الموت حتّى.
وحدها الأمّ تقدر أن تؤجّل الموت. وحدها الأم تقدر أن تبقيه بعيداً عن أولادها. لا يفهم أحد العلاقة بين الأم والموت. وكأنّها على اتفاق معه. كلّما جاء الموت ليخطف أحد أولادها، تتحايل عليه، وتؤجّله إلى حين. وعندما تفرغ حيلها، تقول له: "خذني بدلاً منه، خذني قبله". لا علاقة للأمر بالمسار الطبيعي للحياة. لم يقل أحد إنّ الأم، كونها أكبر سناً، يجب أن تموت قبل أبنائها. إنما هو الاتفاق الذي عقدته الأمهات جميعاً مع الموت منذ الأزل.
اتفاق مختصر: "خذني قبلهم". وأيّ استثناء هو خيانة من الموت للاتفاق الأزلي. بعد أيام قليلة من بدء المعركة، وصل رفات عدد من الشبان. دُفن الرفات على عجل. أخبروا الأهالي فيما بعد بمكان دفن أولادهم. كان ابنه واحداً منهم. لم يصدّق. لم يُقِم له عزاء. منع زوجته وأولاده من زيارة القبر، ولم يدلّهم إليه. وأبقى على عاداته القديمة. صورٌ كثيرة له في المنزل، وأحاديث طويلة عن الابن المفقود، وانتظار لا ينتهي.
لم ييأس الوالد من عودته. مرّت 30 عاماً، ولا يزال ينتظره. يعتبره في عداد المفقودين، لا في عداد الأموات.
توفي الوالد الأسبوع الماضي. قال لهم قبل أن يموت: "ادفنوني فوق قبر ولدي الشهيد". دلّهم إلى القبر الذي أنكره طوال السنين التي مضت. قالوا إنّ الشاب لم يمت، مفقود فقط. صرخ بهم جميعاً: "مات.. مات من زمان". ولم يخبر أحداً أنّه منذ سنوات كثيرة، يقصد قبر ابنه كلّ يوم، يبكي حتّى ينام، ويعود. تسأله زوجته أين كان، فيجيب: "كنت عم موت".
تضحك زوجته. تحسب جملته هذه تعبيراً مبالغاً فيه عن التعب لا أكثر. لم تعرف أنّه كان يموت فعلاً، كلّ يوم، هناك فوق قبر الولد المفقود. استطاع أن يعيش موت ولده وحده، لكنّه لم يستطع أن يعيش في مجتمع يعترف بهذا الموت. لم يعد الابن مفقوداً. يعرفون مكانه جيداً الآن.
لم يرَ الشاب دموعَ والده. ربما رآها، لكنّه لم يبالِ بها. كانت أحلام "البطل الشهيد" أكبر من دموع الوالد. ولكن من قال إنّ هناك شيئاً في العالم أكبر من دموع الوالد.. أيّ والد. لم يودّع والدته. لم يجرّب حتى. يعرف سلفاً أنّ أمّه ستبكي. ويعرف سلفاً أيضاً أنّه سيضعف أمامها. يعرف أنّ ضعفها أقوى منه، وأقوى من بطولاته، وأقوى من الموت حتّى.
وحدها الأمّ تقدر أن تؤجّل الموت. وحدها الأم تقدر أن تبقيه بعيداً عن أولادها. لا يفهم أحد العلاقة بين الأم والموت. وكأنّها على اتفاق معه. كلّما جاء الموت ليخطف أحد أولادها، تتحايل عليه، وتؤجّله إلى حين. وعندما تفرغ حيلها، تقول له: "خذني بدلاً منه، خذني قبله". لا علاقة للأمر بالمسار الطبيعي للحياة. لم يقل أحد إنّ الأم، كونها أكبر سناً، يجب أن تموت قبل أبنائها. إنما هو الاتفاق الذي عقدته الأمهات جميعاً مع الموت منذ الأزل.
اتفاق مختصر: "خذني قبلهم". وأيّ استثناء هو خيانة من الموت للاتفاق الأزلي. بعد أيام قليلة من بدء المعركة، وصل رفات عدد من الشبان. دُفن الرفات على عجل. أخبروا الأهالي فيما بعد بمكان دفن أولادهم. كان ابنه واحداً منهم. لم يصدّق. لم يُقِم له عزاء. منع زوجته وأولاده من زيارة القبر، ولم يدلّهم إليه. وأبقى على عاداته القديمة. صورٌ كثيرة له في المنزل، وأحاديث طويلة عن الابن المفقود، وانتظار لا ينتهي.
لم ييأس الوالد من عودته. مرّت 30 عاماً، ولا يزال ينتظره. يعتبره في عداد المفقودين، لا في عداد الأموات.
توفي الوالد الأسبوع الماضي. قال لهم قبل أن يموت: "ادفنوني فوق قبر ولدي الشهيد". دلّهم إلى القبر الذي أنكره طوال السنين التي مضت. قالوا إنّ الشاب لم يمت، مفقود فقط. صرخ بهم جميعاً: "مات.. مات من زمان". ولم يخبر أحداً أنّه منذ سنوات كثيرة، يقصد قبر ابنه كلّ يوم، يبكي حتّى ينام، ويعود. تسأله زوجته أين كان، فيجيب: "كنت عم موت".
تضحك زوجته. تحسب جملته هذه تعبيراً مبالغاً فيه عن التعب لا أكثر. لم تعرف أنّه كان يموت فعلاً، كلّ يوم، هناك فوق قبر الولد المفقود. استطاع أن يعيش موت ولده وحده، لكنّه لم يستطع أن يعيش في مجتمع يعترف بهذا الموت. لم يعد الابن مفقوداً. يعرفون مكانه جيداً الآن.