وفاة ياسر عرفات.. لغز في انتظار الحل
وأفاد التقرير الطبي الفرنسي، بعد الوفاة بأيام، بإصابة عرفات بالتهاب بالأمعاء وتخثر شديد للدم، لكنه لم يوضح أسباب الوفاة، وشكلت لجنة تحقيق فلسطينية، حققت، وفقاً لمصادر فلسطينية كبيرة، مع كل من وجد في المقاطعة في رام الله (مقر عرفات)، والمكان الذي فرضت عليه سلطات الاحتلال، في حينها، حصاراً منعته فيه من التحرك خارج المقاطعة. وتناولت الأسئلة، وفقاً لمن تم التحقيق معهم، التفاصيل الدقيقة، وطال التحقيق حتى كبار القياديين الفلسطينيين. ولم تفصح اللجنة، بزعامة الطيراوي، حتى الآن، عن أي نتائج سوى اتهام إسرائيل بأنها ضالعة في تسميم عرفات. وكان الطيراوي نفسه قد هدد، العام الماضي، بكشف الأسماء، وعقد مؤتمراً صحافياً، لأجل ذلك، إلا أن تصريحاته، في المؤتمر الصحافي، لم تتعد اتهام إسرائيل، موضحاً أن التحقيق جار لمعرفة المنفذ.
بداية المرض
وفقاً لتصريحات فلسطينية كثيرة، وممن كانوا مع عرفات في حصاره، ساءت صحة الزعيم الفلسطيني عرفات بعد تناوله العشاء بساعتين، في 11 أكتوبر/ تشرين أول عام 2004، حيث بدأ يحس بأعراض مرضية، صارت تسوء يوماً بعد آخر. وبدا عليه الهزال. وظهرت بقع حمراء في وجهه. واحتار أطباؤه في تشخيص سبب أعراضه المرضية، وكان منهم طبيبه الشخصي، أشرف الكردي. وبعد مرور أسبوعين، حضر طبيبان من تونس، واكتشفا أنه يعاني نقصاً في الصفائح الدموية؛ ما أدى إلى نزيف داخلي، ثم نقل إلى مستشفى بيرسي العسكري في فرنسا. وطالبت أرملته، سهى عرفات، وابنته، السلطات القضائية الفرنسية بالتحقيق في وفاته. ورفعت في يوليو/ تموز 2012 دعوى ضد مجهول بتهمة اغتيال زوجها، بعد العثور على مادة البولونيوم المشعة، العالية السمية على أغراض شخصية للراحل، بعد تقرير خاص بثته قناة الجزيرة، استعانت فيه بخبراء سويسريين، أكدوا على وجود السم في متعلقاته الشخصية.
وبعد فتح القضاء الفرنسي تحقيقاً في المسألة، أعيد فتح ضريح عرفات، وأخذت نحو 60 عينة من رفاته، وزعت لتحليلها على ثلاث فرق من الخبراء من سويسرا وفرنسا وروسيا.
في التقريرين الفرنسي والروسي
استبعد تقرير خبراء فرنسيين، صدر بأمر قضائي فرنسي للتحقيق بوفاة عرفات، فكرة أن يكون الزعيم الفلسطيني الراحل مات مسموماً، وذكروا أنه مات ميتة طبيعية، الأمر الذي أثار حفيظة أرملته وعائلته. وحسب التقرير، فإن وجود غاز مشع طبيعي في البيئة الخارجية، الرادون، يوضح هذه الكميات الكبيرة. والبولونيوم في قبر عرفات صادر عن بيئة القبر، وليس الرفات.
وفي سياق التقرير الفرنسي، جاءت نتائج تقرير الخبراء الروس المكلفين بتحليلَ عينات أخذت من جثمان عرفات، واستبعدوا تعرضه لتسمم بمادة البولونيوم، مؤيدين بذلك نتائج التقرير الفرنسي. وقال رئيس فريق الخبراء الروس، فلاديمير أويبا، مدير الوكالة الفدرالية للتحاليل البيولوجية، الذي نقلت وكالات الأنباء تصريحاته: إن ياسر عرفات "مات ميتة طبيعية وليس بسبب إشعاع"، وهذه النتائج مطابقة لتلك التي توصل إليها خبراء مكلفون من القضاء الفرنسي، والتي اعترضت عليها أرملة الزعيم الراحل، وابن أخته القيادي الفلسطيني وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ناصر القدوة.
التقرير السويسري
وعلى عكس التقريرين، الفرنسي والروسي، جاء التقرير السويسري، حيث تمسك خبراء الطب الشرعي السويسريون بفرضية تسميم عرفات، بعد اطلاعهم على نص التقرير الفرنسي، وقالوا إن مادة الرادون التي أشار التقرير إلى وجودها في قبر عرفات ليس لها علاقة بمعدلات البولونيوم التي عثر عليها في القبر.
سهى عرفات أرملة الرئيس الراحل برفقة محامي العائلة بيار أوليفيه، في مؤتمر صحافي في باريس (3ديسمبر/2013/أ.ف.ب) |
وقال مدير معهد الفيزياء الإشعاعية في لوزان، البروفيسور فرانسوا بوشود، في مقابلة مع الجزيرة، في وقت لاحق، إن العلماء الفرنسيين وجدوا مستوى بولونيوم 210 نفسه الذي عثر عليه الخبراء السويسريون، وإن فريقه، على خلاف الفرنسيين، حصل على قياسات مادة الرادون من الضريح.
وقال بوشود "بالنسبة لنا، الرادون يمكن استبعاده، لأننا قمنا عملياً بقياس معدلاته في الضريح قبل فتحه، وكانت المعدلات الموجودة هي نفسها التي توجد في أي ضريح". وأضاف "في الواقع، كانت أعلى قليلاً مما نتوقعه في التربة العادية، لكن، بالنسبة لنا هي نوع من التوضيح غير القابل للاستخدام". ومادة بولونيوم الموجودة في الطبيعة تنجم عن تحلل غاز الرادون في التربة والجو، وفي البيئات المغلقة، مثل الأضرحة، يمكن أن ترتفع معدلات وجود البولونيوم.
وأورد تقرير الخبراء السويسريين، أنهم وجدوا آثار مادة مشعة هي بولونيوم- 210 على كوفية ياسر عرفات، وملابسه الداخلية، وفرشاة أسنانه. وأكد التقرير أنه مات مقتولاً بهذا السم، وأفاد بأن العلماء المكلفين بفحص عينات من رفات عرفات عثروا على مقادير تصل إلى 18 ضعف المعدل الاعتيادي من مادة البولونيوم المشع، ما يرفع إلى 83% نسبة الاشتباه بأنه مات مسموماً بهذه المادة. وأن مقادير غير طبيعية من البولونيوم وجدت في حوض عرفات وأضلاعه، وفي التربة الموجودة تحت جثمانه.
اتهام طبيب أسنان
وسألت اللجنة الفلسطينية للتحقيق بوفاة عرفات كل من كان في المقاطعة، في أثناء حصار عرفات، غير أنها لم تعلن، حتى الآن، عن الفاعل واليد المنفذة لدس السم لزعيمهم. وقد وجهت، منذ بداية التحقيقات، إصبع الاتهام إلى إسرائيل، وهو الاتهام نفسه الذي وجهته عائلة عرفات وزوجته. وقال مصدر قيادي كبير في حركة فتح، إن نتائج التحقيق لم يتم بحثها في أي من جلسات اللجنة المركزية لحركة فتح، أو المجلس الثوري، وتم التطرق للموضوع باقتضاب مرتين فقط. وأن الاتهام المباشر هو لإسرائيل، إلا أنه يجب أن تكون له قرائن وأدلة، وهو ما تعجز عنه اللجنة حتى الآن. وأوضح أن رفع قضية ضد إسرائيل باتهامها باغتيال عرفات لن ينجح من دون القرائن، وهو ما يؤخر الإعلان عن نتائج التحقيق. وأشار المصدر، الذي رفض الكشف عن اسمه، إلى اتهام مباشر إلى طبيب أسنان الرئيس الراحل، والذي توفى بعد وفاة عرفات بشهرين في ظروف غامضة، حيث أُعلن، في حينها، عن وفاته في منزله، من دون ذكر الأسباب، وقال المصدر إن عائلة درس وأبناءه انتقلوا للعيش، بعد وفاته، خارج فلسطين، وثمة شبهات قوية تدور حول الرجل.
وتمتنع لجنة التحقيق بوفاة عرفات عن الإجابة، وتتحفظ على الرد، ما يعيد إلى الذاكرة إعلان اللواء الطيراوي، في "فيسبوك"، قبل عام، إن مؤتمره الصحافي المقبل سيكون للإعلان عن أسماء المتواطئين والمتآمرين، غير أنه لم يعلن عن شيء، من دون إبداء الأسباب.
ومعلوم أن للزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، منزلة خاصة عند شعبه الفلسطيني الذي يترقب معرفة المتواطئين ممن ساعدوا إسرائيل على اغتياله، غير أن لإعلان النتائج تبعات ستتمثل باتهام إسرائيل، ورفع دعوى، في ظل التعقيد الذي تواجهه عملية السلام مع إسرائيل، على ما يقول المصدر الفتحاوي، "لذلك تقرر التأجيل."
في الرواية الإسرائيلية
نشرت صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية، في العام 2012، مقالاً تساءلت فيه عما إذا اغتالت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ياسر عرفات بالسم؟ وهل سيمر وقت طويل جداً حتى نحصل على إجابة حاسمة للسؤال؟ لكن، المؤكد، هنا، أن إسرائيل وأجهزتها الأمنية بذلت، طوال العقود الماضية، جهوداً كبيرةً لاغتيال أبو عمار، كما كتبت الصحيفة التي تناولت، في تحقيق مطول، المحاولات الإسرائيلية لاغتيال أبو عمار، حتى جاء دور الحالة المرضية الغامضة التي وضعت حداً لحياته. وقد تفاخر الزعيم الراحل، في مقابلة صحافية معه، بنجاته من أكثر من 40 محاولة اغتيال، إضافة إلى عشرات المرات التي نجا فيها من الموت المحقق، سواء في أرض المعركة أو في حوادث، وبدون أدنى شك. وكتبت "يديعوت أحرونوت" "ولكن، وعلى الرغم من الضبابية التي تلف قضية موته، ليس هناك شك في أن إسرائيل حاولت أكثر من مرة اغتياله، وكان بعض هذه المحاولات خلاقاً وإبداعياً، بشكل خاص، وشملت المحاولات الإسرائيلية استخدام جناة وخارجين عن القانون من سورية، وصولاً إلى المظاريف المفخخة، وعلى الأقل انتهت محاولة واحدة "عملية الكرامة" بمأساة. وفي بعض الأحيان، انتقلت المخابرات الإسرائيلية إلى حالة من الغرابة الحقيقية، مثل محاولة اغتيال عرفات بواسطة عميل فلسطيني، خضع لحالة من التنويم المغناطيسي.
الشارع الفلسطيني
جدارية للرئيس عرفات في رام الله (27أكتوبر/2014/اأف.ب) |
وقالت روضة خالد (ربة منزل، 40 عاماً)، "كيف لهم أن يسكتوا على الإعلان عن نتائج اغتيال الشهيد عرفات، كان كالأب للجميع، ولا سبب يبرر هذا التأجيل." وقال مصطفى إبراهيم (صاحب بسطة)، "ألا تكفي عشرة أعوام من التحقيق. هذا ليس اختراعاً جديداً، إنه تحقيق يجب أن تظهر ملابساته منذ البداية، وكلنا نعلم ذلك." وطالب الرئيس أبو مازن باستخدام سلطاته من أجل الاعلان عن المتآمرين، ولتستريح روح الشهيد في قبرها، على حد تعبيره، في ذكرى وفاته.