يُعدّ الدكتور أحمد مولود ولد أيده الهلال أحد أبرز الباحثين الموريتانيّين في التاريخ والاجتماع والأنثربولوجيا المقترنة بالصحراء الأفريقيّة. يتحدّث إلى "العربي الجديد" عن آثار بلاده وتراثها.
- في البداية، كيف يمكن التعريف بمركز الدراسات الصحراويّة الذي ترأسه؟
هو مركز جامعي يُعنى بالبحث العلمي في مواضيع ذات صلة بالصحراء الأفريقية والموريتانية، خصوصاً وأنها ظلت على مرّ التاريخ ملتقى لتيارات ثقافية وفنية وفكرية، انتقلت عبر مسالك القوافل بين منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط وبلاد المغرب شمالاً ومنطقة الساحل الأفريقي جنوباً.
- وما هي أهدافه؟
يهدف المركز إلى تعزيز قدرات البحث في حقل الدراسات الصحراوية، وتبنّي مشاريع وبرامج بحث في مختلف فروع العلوم الإنسانية ذات الصلة بالصحراء، والمساهمة في حفظ الذاكرة الحيّة لمنطقة غرب الصحراء، وتشجيع القيام بأبحاث في العلوم التطبيقية المتصلة بالتنمية الإنسانية المستدامة، وبالدراسات الاستشرافية المتعلقة بقضايا الأمن والسلم والوقاية من المخاطر والكوارث في الفضاء الصحراوي.
كذلك يهدف إلى تقديم الخبرة والاستشارة، وتعزيز التعاون مع مؤسسات البحث الوطنية والإقليمية والدولية المهتمة بالصحراء، بالإضافة إلى العمل على تجميع قاعدة بيانات حول الصحراء بما يخدم متطلبات البحث العلمي.
- على الرغم من أهمية المدن التاريخية في موريتانيا، إلا أنها تعاني الإهمال وزحف الرمال. فكيف إنقاذها؟
كحصيلة لأبحاثي حول المدن العتيقة، يمكنني القول إن إنقاذ هذه الحواضر يرتبط بتنميتها والعمل على استرجاع أسباب ازدهارها. وذلك من خلال توظيف تراثها وتثمينه على سبيل المثال، باسترجاع جزء من وظائفها العلمية عبر تأسيس محاظر (مدارس شعبية) نموذجية في تلك المدن.
كذلك يمكن إنقاذها من خلال العناية بكنوزها البشرية الحية، في مجال الحرف والصناعات التقليدية. أيضاً، لا بدّ من القيام بحفريات أثرية في هذه الحواضر، وتوظيف جميع التقنيات والوسائط المتاحة لصيانة تراثها وتثمينه مثل إنتاج أفلام وثائقية تهتم بذاكرة المدن القديمة.
- انتقادات عديدة توجّه إلى الجهود الرسمية في ما يخصّ إنقاذ هذه المدن، خصوصاً مهرجان المدن القديمة. كيف تعلّق على ذلك؟
مهرجان المدن القديمة احتفالية جميلة تسعى إلى التخلّص من النسيان الذي طال مدننا القديمة، وكاد أن يطبق على تراثها. لذا أرى الجهود الخاصة بهذه التظاهرة مهمة، خصوصاً وأن الدولة رصدت منذ النسخة الأولى للمهرجان نسبة واحد في المائة من الإيرادات الجمركية لإنقاذ هذه المدن. لكن هذا لا يعني أن طريقة تنظيم المهرجان فعالة. فبعد خمس دورات، أصبح في حاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى قراءة نقدية. إلى ذلك، أعتقد أن الوقت حان حتى يأخذ المهرجان صبغة دوليّة، خصوصاً وأن هذه المدن مدرجة على قائمة التراث العالمي.
- لماذا لا نجد اهتماماً كبيراً بالحفريات للكشف عن الآثار؟
في الواقع، موريتانيا اهتمت بالحفريات الأثرية بعد الاستقلال، ونجح المعهد الموريتاني للبحث العلمي الذي تأسس في عام 1974 في إدارة أعمال الحفر، والبحث عن الآثار الحضارية في مواقع تكَداوست (أودغست) وكومبي صالح (غانه) في أقصى الشرق، بالإضافة الى موقع آغريجيت في الوسط.
ولأن الاهتمام بهذه المواقع جزء من العناية بالهوية والتاريخ الوطني، ليس من المصادفة أن يكون الاهتمام أتى في وقت مبكر من عمر الدولة، وبدعم فني علمي ومالي من قبل الدولة الفرنسية استمر حتى تسعينيات القرن الماضي، وشاركت فيه كفاءات موريتانية.
لكن واقع البحث عن الآثار تغيّر اليوم في موريتانيا وتبدّل مع عزوف الدارسين الفرنسيين عن مواصلة التنقيب لأسباب متعددة، لعلّ أبرزها ما يذكر عن تهديد إرهابي للأجانب خصوصاً الأوروبيين. وهو ما يحتّم علينا كأكاديميين وطنيين التفكير في حل عملي لإنشاء مدرسة وطنية موريتانية لعلم الآثار.
- ما هي الأماكن التي قد تسفر عمليات التنقيب فيها عن اكتشاف آثار نادرة؟
تخفي الرمال والصخور في موريتانيا كثيراً من المواقع التي يمكن أن تسفر الحفريات فيها عن اكتشافات هامة. والدليل على ذلك بعض المعالم الجنائزية الأثرية في مقبرة "السلة" في آدرار، التي عثر فيها على قبور لأشخاص مدفونين وقوفاً. كذلك، عثر في موقع "أشاريم" في ولاية تكانت على عدد من الدنانير الذهبية المرابطية التي تمثل ثروة من المسكوكات لا تقدر بثمن. وفي صحراء المجابات الكبرى، عثر عالم الصحاري الفرنسي الراحل ثيودور مونو على آثار قافلة هلكت، وقد مثلت مخلفاتها الأثرية اكتشافاً نادراً في موقع معدن أجفّان. إلى ذلك، ينبغي إقامة حفريات فيها مثل "آبير" و"تينيكي" و"تازخت" و"أوجفت" و"جاوكي" و"آكَويدير" وغيرها.
- سُجّل أخيراً تفعيل للتعاون ما بين موريتانيا وكل من مصر والسودان للاستفادة من تجربتهما في مجال حفظ التراث والآثار. كيف ترى هذا التعاون؟
شخصياً، أرى أن الانفتاح على الأشقاء العرب للاستفادة من تجاربهم في صيانة التراث الأثري، هو توجه موفّق بعد تخلي شركائنا التقليديين الفرنسيين عن الدعم الفني للحقل الأثري الذي اعتادوا تقديمه منذ الاستقلال. وهو يأتي نظراً للحاجة الماسة التي يقتضيها ضياع كنوزنا الأثرية ونهبها في مواقع مكشوفة في الصحراء. ويكفي أن نعرف اليوم أن موقعاً كـ "البيظ" في ولاية آدرار، كان يحتوي آلاف القطع الأثرية في مطلع القرن العشرين ترجع لحقبة ما قبل التاريخ، ولم يبقَ منها شيء. وما ينطبق على "البيظ" ينطبق على كثير من المواقع الأثرية المكشوفة. وهذا الوضع يستدعي تدريباً في اختصاص الآثار في الجامعات الموريتانية، لخلق محافظين على هذا التراث، بالإضافة إلى أهميّة تحديث ومراجعة عمل المعهد الموريتاني للبحث العلمي بعد أربعين عاماً على تأسيسه.
- تُعدّ المخطوطات التاريخية ثروة موريتانيا. ما هي الجهود الرسمية التي تقوم بها الدولة والمعاهد لجمع المخطوطات وتصنيفها؟
اعتنى معهد البحث العلمي بالتراث الموريتاني المخطوط، ووضع خطة عاجلة لإنقاذ أكبر عدد من المخطوطات واقتنائها بالهبة والشراء والمبادلة. فنجحت هذه الخطة في انتشال ما يزيد على ستة آلاف مخطوطة من الخزائن الأهلية في الحواضر والبوادي الموريتانية، ووضعها في خزانة المعهد ليستفيد منها الباحثون ويحافظوا عليها. وبفضل التعاون مع دول صديقة مثل ألمانيا وإسبانيا والولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا، نجح المعهد في صيانة وترميم وتصوير وفهرسة جزء هام من تراثنا المخطوط.
- هل ثمّة دعم رسمي لمهمات البحث والتدريب التي يقوم بها الباحثون والمؤرخون؟
منذ تأسيس وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في عام 2006، بدأ الوعي الرسمي حول ضرورة البحث العلمي. وقد تجلى في وقت لاحق في تأسيس مراكز بحث ووحدات ومختبرات بحث علمي، بالإضافة إلى تخصيص ميزانية للقيام بهذه الأبحاث. وهو تحوّل هام يترجم دعم السلطات العامة للبحث العلمي.
تراث بلاده مركز اهتمامه
يرأس الدكتور أحمد مولود ولد أيده الهلال مركز الدراسات الصحراويّة، إلى جانب عمله كأستاذ محاضر في جامعة نواكشوط. أصدر عدداً من الدراسات والأبحاث حول مدن موريتانيا العتيقة المدرجة على قائمة التراث العالمي (شنقيط وودان وولاته وتيشيت)، بالإضافة إلى اهتمامه بآثار المدن الوسيطة المندثرة. وقد شغل مناصب عدّة في مؤسسات جامعيّة ومراكز بحثيّة، وساهم في تنظيم عدد من الندوات والملتقيات الدوليّة، وشارك في فرق بحث حول مشاريع عديدة، من أبرزها "موسوعة حياة موريتانيا".