تدندنُ "جلسَت. جلسَت والخوف بعينَيها، تتأمّل فنجاني المقلوب"... تقاطعها صديقتها. "أظنّ أن هذه تتلاءم أكثر مع الموقف". وبصوت خافت تغنّي بدورها "علّمني حبّك سيّدتي أسوأ عادات، علّمني أفتح فنجاني في الليلة آلاف المرات، وأجرّب طبّ العطارين وأطرق باب العرّافات"... وتضحك الشابات الثلاث. "الله يستر علينا".
هناك، في ذلك المقهى الصغير، ينتظرنَ أدوارهنّ. يُفتح باب الحجرة الداخليّة، فيخرج رجل أربعينيّ حسن الهندام. يرتبك بعض الشيء عند رؤيتهنّ، ويتعثّر عند الباب الخارجيّ. يبتسمنَ.. تعاطفاً. يبدو بائساً. ألسنَ كذلك، أيضاً؟ "ليس إلى هذه الدرجة". يضحكنَ.
لم تكن تلك محطّتهنّ الأولى. صبيحة هذا اليوم الطويل، قصدنَ عالماً فلكياً في أحد أحياء بيروت الشعبيّة. قيل لهنّ إنه المنشود. لكن الرجل تخطّى عقده الثامن، وبدا وكأنه فقد مهاراته وحسّه. هو اضطر إلى استخدام عدسة مكبّرة لقراءة راحات أيديهنّ.
لم يُشبع العجوز نهمهنّ، فاتصلنَ بتلك البصّارة. إحداهنّ تحتفظ برقمها للحالات الطارئة. وهذه واحدة. هذه هي حالنا، بطبيعتنا البشريّة، نسأل عن مستقبلنا.. رغبة منا في الاطمئنان. نحن بحاجة إلى يقين واستقرار ونسق ما.
نبتغي الاطلاع على ما تخبّئه لنا الأقدار، ونسعى إليه بكلّ الوسائل المتاحة، بيد أننا نخشاه في الوقت عينه. ويبقى اللغز. نطالب بالمزيد، في حين أن تنبؤات سابقة لم تصحّ بمعظمها. قراءة المستقبل بالنسبة إلى المتخصصة الفرنسيّة في علم النفس إيزابيل توب، ما هي إلا محاولة لإرضاء أحد هواماتنا الأساسيّة.. الإيمان بأن المستقبل مكتوب على شكل حكاية جميلة، تتحقّق فيها كلّ رغباتنا.
لا نطلب من العرّاف أن يحكي لنا عن أنفسنا فحسب، بل كأننا نتوسّله استشراف مستقبل بهيج لنا. كأننا نتوسّله طمأنتنا بأن تلبّد واقعنا سينقشع وأن ثمّة أسباباً للأمل.
الأمل. محكومون نحن بالأمل. قالها سعدالله ونّوس. هو طوق نجاتنا من اكتئاب عابث، ومن هوّة مهلكة قد تدفعنا يومياتنا إلى الانزلاق فيها، لتبتلعنا. هو ما يجعلنا نتشبّث بوجود لا يسدّ حاجتنا، لعلّ الغد أحسن.
اليوم لا يرضينا، فنستعجل غدنا. نحاول استراق نظرة إلى هذا الغد، ولو خاطفة.. ولو عبر عرّاف. نحن بحاجة إلى ما يهدّئ روعنا.
صبيحة هذا اليوم الطويل، لم تخفِ إحدى الشابات فزعها. "أخاف مما قد يُقال". هنّ وعلى الرغم من عقلانيّة عارمة تحكمهنّ، كنّ بحاجة إلى الوثوق بقدرات عليا تحكي عنهنّ وتستشرف مستقبلهنّ.
هل نبحث عن الحقيقة؟ نحن نترقّب الكلمات التي نرغب بسماعها. ومن دون أن نعي، نبتاع سيناريوهات لتغذية أحلامنا وتهدئة أنفسنا، فالواقع ماضٍ في إقلاقنا.