يا حضرة مولانا: ذاكرة العشق

أنس أزرق

avata
أنس أزرق
29 ديسمبر 2014
DE3B7A81-9559-4E87-8219-14B574D3B61D
+ الخط -
"ما تبحث عنه، يبحث عنك"!

تدور الحياة في مدينة قونية التركية حول مولانا جلال الدين الرومي، ففي قلب المدينة يتربع ضريح الرومي، مقصد مريديه وزائريه، وفي الطرف الأقصى منها توجد جامعة مولانا، وفي منتصف المسافة بينهما هناك المركز الثقافي لحضرة مولانا.
تدور المدينة حول حضرة مولانا، كما يدور الدرويش في رقصته المولوية.
لا شيء يشدك في المدينة التي تقع في قلب الأناضول، وانت تحضر احتفالات 741 سنة على وفاته، أكثر من أشعار وموسيقى الرومي ورقص السماح بطريقته الصوفية المولوية والتي تقام لمدة عشرة أيام وتتوّج بليلة العرس "شب عروس" Seb-i Arus (وتعني ليلة العرس باللغة الفارسية)، أو جمع الشّمل مع الحبيب، والتي تعبّر عن فلسفة الموت عند المتصوفة عموماً، وعند الرومي خاصة، فهو نهاية للحياة الدنيا الفانية وانتقال للقاء وجه الباقي، الله عز وجل، "غداً نلقى الأحبة: محمداً وصحبه".
وكما تدور الحياة في قونية حول مولانا، تدور الطريقة المولوية حول العشق والوصول للمعشوق، فهو الغاية والمقصد:
"الكل معشوق والعاشق حجاب، والمعشوق حي والعاشق ميت، ولو لم يقم العشق برعايته، يبقى كطائر بلا جناح".
"كل ما أقوله شرحاً وبياناً للعشق، أخجل منه عندما أصل الى العشق نفسه.. فالعشق أكثر وضوحاً دون لسان، والشمس تكون دليلاً على الشمس، فإن أعوزك الدليل لا تشح عنها بالوجه".
وكل ما عدا العشق، في شرعة الرومي، باطل: "ليس في المعاني قسمة واعداد، وليس في المعاني تجزئة ولا افراد، واتحاد الحبيب بالأحبة طيب، ولتمسك بقدم المعنى فالصورة متمردة. أذِب الصورة المتمردة بالألم والمشقّة (بالرياضات)، حتى ترى الوحدة تحتها كأنها الكنز".
ويدعو الناس جميعاً، على مختلف معتقداتهم وطبقاتهم واشكالهم، الى الأخوّة الإنسانية، أخوّة العشق: "أيها البشر الأتقياء التائهون في هذا العالم/ لم هذا التيه من أجل معشوق واحد/ ما تبحثون عنه في هذا العالم/ ابحثوا في دخائلكم، فما أنتم سوى ذلك المعشوق".
وهذه هي سبيل النجاة والخلاص: "فالعاشق لا يعرف اليأس أبداً.. كل الأشياء ممكنة للقلب المغرم". "مَنْ لا يركض إلى فتنة العشق، يمشي طريقاً، لا شيء فيه حي".
سيرة موجزة

ولد محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي (604 هـ -672 هـ = 1207 -1273 م)، في بلخ، من أفغانستان الحالية، وكانت حينها من مناطق بلاد فارس. وكان أبوه يلقب بسلطان العلماء، وعلى خصومة مع العالِم والمنطقي الشهير فخر الدين الرازي، واضطرّ للهجرة عند قدوم المغول، فهاجر وعائلته إلى نيسابور، حيث التقى هناك الشاعر الفارسي الكبير فريد الدين العطار، الذي أهداه ديوانه "أسرار نامه"، واستقر أخيراً بقونية، عاصمة السلاجقة الاتراك، أثناء حكم الأمير علاء الدين كيقباذ.
وعُرف جلال الدين باسم مولانا وأسّس الطريقة المولوية والتي اكتملت على يد ابنه وخليفته سلطان ولد وألّف المثنوي والرباعيات وديوان الغزل والمجالس السبعة ورسائل المنبر.
ولا تكتمل سيرة الرومي بدون سيرة رفيقه شمس الدين التبريزي والذي التقى به في عام 1244م. ويصف مريدو المولوية لقائهما بما ورد بالآية القرآنية "مرج البحرين".
وعلاقة القطبين التبريزي والرومي كانت لحظة فارقة في حياة الرومي، حيث تحوّل من العلوم الشرعية الى التصوّف. كان التبريزي درويشاً متصوفاً هائماً على وجهه "باحثاً عن شخص فارغ يملأه بالحب"، وما أن التقى بالرومي، حتى هجر الأخير وظيفته المرموقة بالتدريس والافتاء وانزوى عن أهله وأولاده متفرغاً لخلوته مع شمس، ما جعل العلاقة مثار شائعات، وانتهت بمقتل التبريزي بظروف غامضة عام 1248م. ولم يُعرف قاتله، فحزن الرومي على موته ونظم أشعاراً وموسيقى ورقصات استوحاها من سوق الذهب وطرق صفائحه، وتحوّلت إلى ديوان سمّاه ديوان شمس الدين التبريزي أو الديوان الكبير.
شرعة الحب

كان العصر الذي عاش فيه مولانا عصر قتل ودمار وصراعات دينية ومذهبية وعرقية، كحال عصرنا، فكانت طريقة الرومي لا تعترف بالفوارق الدينية، فعدد الطرائق لله بعدد الخلائق: "أنا أنت وانت أنا في اتحاد".
وكان يرى الأديان واحدة: "توكّلت عليك، أيّها الحقّ الأعلى، فلا تنأ عنّي. ليس لي سوى معبد واحد، أو مسجد، أو كنيسة، أو بيت أصنام. ووجهك الكريم منه غاية نِعمتي. فلا تنأ عنّي، لا تنأ عنّي".
حضرت هذه المعاني في ليلة الاحتفال الكبير يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول، إذ لم يتخلّف عن الحفل الذي أقيم بملعب البلدة أركان الدولة من الحزب الحاكم والمعارضة، فخطب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام عشرة آلاف احتشد بهم المكان، وركز على إرث الرومي من فلسفة الحب "تبرز فلسفة العشق الإلهي أمام متبعي الديانة المزورة وذوي الفهم الخاطئ، هؤلاء سيسقطون وتسقط أقنعتهم كما في حالة داعش".
كما استلهم أردوغان روح الاتحاد التي دعا إليها الرومي، فذكر السلطان ألّب أرسلان (1029-1072 م)، رابع حكام السلاجقة الملقب بـ"سلطان العالم"، لعظم ملكه، وكذلك السلطان صلاح الدين الايوبي (1138 – 1193م)، للموازنة بين رمزين تركي وكردي، واستحضر أيضاً سيرة المتصوف حاجي بكتاش، الرمز المعتبر لدى علويي تركيا. واعتبر أردوغان مساندة بلاده لفلسطين واجباً أخلاقياً "نتعلمه من مولانا في وقت تستعيد فيه الامة ثقتها بنفسها من جديد. فالوقت مثالي للبحث عن المستقبل".
دمشق وحلب

ثمة مراسم شعبية قبل مراسم الاحتفال الرسمية تقام في ضريح الرومي "تربة خانة"، والذي كان مركزاً لتكايا المولوية المنتشرة في العالم الإسلامي، قبل أن يغلق مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، عام 1927 التكايا ويحول الضريح الى متحف.
وقد تقدم هذه المراسم، التي بدأت بقراءة "المثنوي"، متولية الوقف حفيدة جلال الدين الرومي للجيل الثاني والعشرين، إسين جلبي بايرو، المولودة عام 1949. وكانت المفاجأة أنها تفهم العربية وتتكلم بعض الجمل، فهي عاشت جزءاً من طفولتها في مدينة حلب بعد انتقال مركز المولوية اليها. وقالت لي: "عشت في حلب، وأنا أتألم كثيراً ممّا يحصل فيها". وأضافت: "منحني جدي، مولانا جلال الدين الرومي، أرثاً مستمراً من القرآن الكريم، وسهّل عليّ وعلينا فهمه، وهو يعلّمنا أن كل الناس سواسية، من آدم وحتى نهاية الخلق".
وعندما سألتها كيف ينظر أتباع المولوية إلى أن متولية أوقافهم امرأة وغير محجبة؟ أجابتني بابتسامة بأن "الإسلام دين السماحة وهو لا يفرّق بين الذكر والانثى، وبالنسبة للحجاب فهو شيء خاص بينها وبين ربها، فإن ارتكبت معصية فهي التي ستحاسب".
وختمت حديثها بما يقوله جدها: "يقول مولانا إن عرفنا أنفسنا، سنحب الآخر، والله يريد منّا أن نعرفه ثم نحبه وأن نشارك ونتشارك الحب في كل مكان، فنحن نحتاج للحب في هذا الزمن".
ويذكر أن التكية المولوية مكان استخدمته الطريقة كملجأ للدراويش والمريدين، ولا سيما الفقراء، وقد انتشرت كثيراً في العالم الإسلامي إبان العصر العثماني وكانت غالباً ما تضم مسجداً ومستوصفاً ومركز تعليم وغرفاً لإقامة الطلاب ومكاناً لإقامة الغرباء، "عابري السبيل"، ويتم توزيع الطعام على الفقراء فيها وتقام حلقات الذكر والمولوية فيها.
ومن التكايا المولوية اشتهرت "خان المولوي" في إسطنبول، و"التكية المولوية" في نيقوسيا، و"مسجد الميلوية" في دمشق، و"التكية" المولوية بطرابلس الشام، و"الدار العلائية" في اللاذقية، و"تكية القدس"، و"تكية المغاوري" في القاهرة.
أما تكية حلب في منطقة "باب الفرج"، فقد أصبحت مركز المولوية بعد إغلاق تكية قونية عام 1925 حيث عيّن "عبد الحليم جلبي"، آخر شيوخ التكية المولوية بمدينة قونية، ابنه "محمد باقر جلبي" في حلب شيخاً في "مولوي خانة".
ولما توفي "باقر جلبي" بإسطنبول عام 1943، عيّن ابنه "جلال الدين جلبي" مكانه.
وفي عام 1944م، ألغت الحكومة السورية مشيخة المولوية وألحقتها بالأوقاف، فعاد "جلال الدين جلبي" الى تركيا.
ولحلب ودمشق مكانة خاصة عند المولويين، لأن "مولانا" درس فيهما لسبع سنين فأخذ العلم في حلب من كمال الدين بن العديم والتقى بدمشق بالشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.

السماع والسماح:مدد، يا الله، مدد

"كنت نيئاً، ثم نضجتُ، والآن أنا محترق".
تتميز الطريقة المولوية عن غيرها من الطرق الصوفية برقصتها الدائرية واهتمامها الكبير بالشعر والموسيقى فمولانا قد اختار، كما يقول، طريق الرقص والموسيقى للوصول إلى الله، في الموسيقى سر الوجود وفي الناي حنين الإنسان للعودة لأصله السماوي. 
"إن الناي يتحدث عن الطريق المليء بالدماء، والناي هو الذي يروي قصص عشق المجنون..والناي صديق لكل من افترق عن أليفه".
الرّقصة الدائريّة، كما يقولون، ترمز لدوران المجرات في الفضاء وإلى حركة الطبيعة والكائنات، ودائرة الراقصين تقسم على نصفي دائرة يمثل أحدهما قوس النزول أو انغماس الروح في المادة، ويمثل الآخر قوس الصعود، أي صعود الروح إلى بارئها. ويمثل دوران الشيخ حول مركز الدائرة الشمس وشعاعها، أما حركة الدراويش فتمثل النظام الكوني والفصول الأربعة.
وترمزالثياب البيض التي يرتديها الراقصون إلى الكفن، والمعاطف السود ترمز إلى القبر، وقلنسوة اللباد إلى شاهدة القبر فيما تشير الدورات الثلاث لمراحل التقرب إلى الله. 
في حلقات الذكر المولوية، التي حضرتها، طفلاً، في مدينتي حلب، بأعياد المولد النبوي يرقص الدراويش مع إنشاد المنشدين "يا إمام الرسل، يا سندي، أنت باب الله، ومعتمدي، وبدنياي وآخرتي، يا إمام الرسل خذ بيدي. ثم "مدد يا رسول الله، مدد يا حبيب الله) مع ترديد جميع الحاضرين كلمة "حي" وتختم الفتلة بعبارة "الله الله يا الله"‏‏.


المساهمون