غابت ثقافة العمل المدني عن كثير من الأوساط السورية خلال عقود مضت، واقتصرت في بعض الفترات على شرائح اجتماعية محدودة، ساعد على ذلك اختلاف المنابت والإمكانات، وما أتاحه النظام السوري لفئات اجتماعية دون أخرى. فكانت هناك الجمعيات الأهلية الدينية، التي ترعى من قبل الكنائس ورجالات الدين، وكانت أيضاً الجمعيات الأهلية، التي اكتفت برعاية المكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصة مثالاً.
ومع وصول أسماء الأسد إلى موقع السيدة الأولى، أوجدت مساحات قد تعتبر أوسع للعمل "المدني" من خلال تأسيس "الأمانة السورية للتنمية" كهيئة داعمة للعمل المدني وتفعيله في سورية، ضمت بين كوادرها المتمكنين من اللغات الأجنبية وغيرها من المهارات، التي لم تتوفر لكل الشباب السوري.
ويمكن الإشارة إلى نافذة التطوع والعمل الأهلي التي أتيحت من خلال منظمة الهلال الأحمر، كمتنفس وحيد للشباب الراغب في الانخراط في العمل الأهلي، كل ذلك تسبب في دخول الشباب السوري خلال الثورة إلى ميدان العمل الأهلي والمدني بعشوائية، وعدم استناد للمتعارف عليه بخصوص هذا النوع من العمل حول العالم، وخضوعهم داخل ما ظهر من تشكيلات، بدءاً من التنسيقيات وانتهاء بالتجمعات الكبرى لمركزية فاقعة مصدرها اقتصار الخبرات والرؤى الواضحة على بعض السوريين دون غيرهم.
لم يكن ذاك وحده سبب عدم انضباط العمل المدني وانتظامه ضمن سياق واحد، بل أيضاً ظروف الثورة السورية وما تعرض له المجتمع الأهلي من تهجير ونزوح، وتواجد في بيئات جديدة، فضلاً عن التوجهات المختلفة للجهات المانحة ممن تولى تمويل المجموعات المختلفة، والتي غلب عليها الطابع الإغاثي.
في دول الجوار، التي شهدت موجات نزوح كبيرة للسوريين، تأسست نوى لمنظمات العمل المدني، لا سيما عام 2013 في تركيا، وفي لبنان وإن بعدد أقل، واليوم يتحول حضور هذه المنظمات باتجاه الكثافة العددية والتراوح بين الفعالية الحقيقية والوجود الصوري الساعي تجاه الفعالية في عملية بحث عن فرص عمل، وهذه إحدى زلات العمل المدني اليوم في المنفى، فقد بات في الفترة الأخيرة وسيلة تكسب، تبرر في بعض الأحيان بالحاجة، وبضخ الغرب للكثير من الأموال لدعم أنواع محددة من العمل ضمن إطار الحراك المدني.
قبل أشهر بدأت المنظمات المدنية السورية في تركيا تنتظم ضمن تجمعات وهيئات وحلقات تشاور، في سعي لتعميم المعرفة والخبرة غير المتكافئة، وكذلك توسيع عمليات التنسيق بين المنظمات ذات الخط الواحد/ الإغاثي، الإعلامي أو التنموي المحدود، على اعتبارها الأكثر حضوراً بين أنماط العمل، في إطار وجود خجول لمجموعات البحث، والمبادرات السياسية.
من جانب آخر هناك غلبة لحضور بعض المنظمات دوناً عن غيرها في أماكن مختلفة من الجغرافيا السورية وكذلك دول الجوار، يقف وراء ذلك كم كبير من الدعم القائم على توجهات معينة من الحكومات الغربية، يلاحظ إزاءها استسلام تام من الجهات السورية لرغبة المانح في شكل المشاريع والشرائح المستهدفة منها، رغم عدم تشابهها في كثير من الحالات مع حاجة السوريين وما يشبه واقعهم اليوم، والحجة الدائمة هي التطلع للغد. والمؤسف في هذه الحالات، إضافة للاستسلام لرغبة المانح، هو ضم الكثيرين إلى مجالات لا تشبههم، والاكتفاء في البرامج التدريبية (الورشات) مثلاً، على تحقيق العدد المتفق عليه، مع عدم مراعاة اهتمام الحاضرين الحقيقي بموضوع التدريب، فضلاً عن بقاء الغالبية منهم خارج سورية في الوقت الذي تهدف فيه البرامج للمتابعة داخل سورية، وفي كل ذلك زج اعتباطي للكثير من الشباب فيما لا يناسب توجهاتهم بل يفرض عليهم كصيغة من صيغ السائد والمتداول.
أما عن الجهات، التي تحصر عملها مع السوريين الموجودين في الخارج، ففي أدائها من الزلات ما فيه، نذكر، على سبيل المثال، المؤسسات التعليمية وهيئات رعاية الأرامل والأيتام، وما تقوم به من فرض شروط للقبول على الناس، نلحظ ذلك لدى الجمعيات الإسلامية التي ترفض مثلاً استقبال أرملة غير محجبة، وأم لصبي تجاوز العشر سنوات.
والحق أن لا صوت واضح للشباب في هذه المجموعات، بل إنهم يخضعون في كثير من الأحوال لشرط الحاجة، فأمام إلحاح الظرف المعيشي تستغل طاقات وأفكار الكثير منهم، وتوضع الحواجز أمام انطلاقهم.
في مقابل كل ما ذكر، لا بد من الاعتراف بجدية بعض المشاريع المدنية الشبابية، وتميز كوادرها ووضوح رؤاهم، لكن الحصار المفروض على أفق عملهم من المانحين من جهة، وواقع الأرض السورية من جهة أخرى، يصعّب المهام عليهم، ويضعهم أمام الكثير من التحديات.
(سورية)