يحضر المثقّف كغائب ضمن الحراك الشعبي في الجزائر... يلفّ ويتيه ويترقّب، كأنَّ ما يحدث يتجاوز فاعليته وذاتيته، يتكلّم بصمت وخفوت كي يصغي لهفيف العاصفة وهي تمرّ بين عينيه.
غائبٌ وحاضر ومبعثَر ومشتّت في ملاذات "السوشل ميديا"، يطلّ منها مستميتاً في الكتابة والحفر والتفكيك، علّه يقارب أو يفهم أو يستوعب ما تشي به الإشارات والعلامات التي تثور وتحتقن بين جنبات الشارع، كأنها تمتحن حضوره وتدفعه ليتحرّر من سلطة الوهم والكسل والعزوف والخوف والتردّد... تُحرّره من تاريخ مزيَّف ومغشوش وحقيقي، ومن حضور هامشي خانع متذلّل طَبع سلوكياته طيلة أزمنة تشظّى فيها قدر الجزائر من واحدٍ مؤتلف إلى متعدّد مختلف، وتقدّمت الصفوف نخبٌ أخرى؛ سياسية وعسكرية وزمر وعائلات وفاعلون آخرون ينتمون إلى فضاءات ومناخات تتقلّب حسب البرهة والمصلحة... تقدّمت واقترنت بحرائقه وصنعت الفارق والجوهر، وأسّست، وتؤسس الآن، لمستقبله، حتى وإن كان الأخير مستتراً ومغلَّفاً بالغموض والمجهول.
■ ■ ■
في طريقه إلى الحراك، يقترح المثقَّف لصوته منظومة أفكار بسيطة ترتهن لما يصدح ويتكرّر في أفواه عامة الجمهور من شعارات وكلمات وتعابير وجمل باتت مقدّسةً وأسطورية من كثرة ما تردّدت طوال هذه المدة من عمر الحراك. لم ينتجها هذا المثقّف، بل خرجت من حناجر لاعبين آخرين أصبحوا رموزاً تتوهّج في كل جمعة، وفي كل موقع، وعند كل فرصة تسمح بالكشف والظهور.
■ ■ ■
بين أحلام الروائي أحميدة عياشي بالثوريّين داخل الحراك، والمناداة بدوام الابتسامة لدى جمهوره عند الشاعر عادل صياد، والخوف المرتبك عليه عند الكاتب عبد العزيز بوباكير، وتنظيرات مستهلكة عنه للأكاديمي ناصر جابي، ومقولات فلسفية مجرّدة حوله للكاتب إسماعيل مهنانة، ولقطات سيلفي وفيديوهات من قلبه عند بعض الصحافيّين...
بين كلّ ذلك، نسترق السمع إلى هؤلاء كعيّنة صغيرة بوصفهم أنشط من حرّك أو تحرّك أو حُرّكَ في الحراك من زمرة المثقّفين والكتّاب، نستنطق بلاغتهم المهمّشة ونتلمس عفافهم البطولي وهو يتأمّل المجتمع الزاحف إلى زمن آخر يُنشئه من شرعية الشارع الرافض لكل وصاية تأتيه من أبراج عالية أو من ذكاء النخب التي لم تعد صالحة لمسايرته، وهو المجتمع المحافظ الرازح تحت عتبات "الجهل المقدَّس"، والفقر المقنن، والرؤية الضبابية في معرفة ما يريده بالضبط، سوى "يَتْنَحّاوْ قاع" (عبارة بالعامية الجزائرية تعني: يجب أن يذهبوا جميعاً)... لا تهمّه التحديات الكوسموبوليتية التي تخترق وتعبر الحدود ولا تؤمن بفكرة الشعوب العظيمة المناضلة وتكاد تمارس عليه النفي حتى داخل الوطن، وهو سعيد بذلك، بل يتحدّى كلَّ من سوّلت له نفسه أن يقترب من مجاله... تحد واهم ومرضي لن يصمد أمام غلق مجال حيوي مثل فيسبوك... حتى لا نقول الكثير عن أبسط أمور الحياة المعيشية.
■ ■ ■
بدا الحراك وكأنه وضع المثقّف في درجة من الذهول والحيرة والصدمة في مواجهة قيم ومُثل لطالما باركها، وها هي تنهار أمامه فجأةً وبسرعة أمام قيم جديدة ومُثل أخرى تصعد من بؤر القلق والتوتر واليأس والإحباط.
إنه خطاب جديد يلمع بحدّته من دون فواصل ونقاط وخطوط أمام خطاب متفلسف ثقافي مهادن ومستكين... خطابٌ يرسم شكوكاً حول كلّ شيء في مواجهة يقين هادئ مرتّب ونظيف... لغة شارع حيوية تسطع بأهازيج تلوّن الحناجر بعنفها وواقعيتها وثوريتها، وحتى بصلافتها، في مواجهة لغة شعرية رومانسية حالمة مكبوتة وحنونة... كل هذا بلوره الحراك وانتهى إليه وجعل المثقّفَ يوازن ويجرّب أن يقول شيئاً ما كي يدرك ويستدرك ويلحق... حتى لا يركب متعرّجاً.
■ ■ ■
هناك فيما يشتغل وراء الحراك في أقصى أفكار رموزه ما يبتعد عن أسئلة المثقف الذي ما زال متمسّكاً بأسئلة بالية غدت اليوم متشظية... عن الذاكرة المثخنة بالجراح، والوطنية الجاهزة والمعلّبة، والهوية الملتبسة... متمسّكاً بأفكار منمّقة ومسبوكة، واجتهادات لا تجرؤ حتى على ملامسة المسكوت والمتخفّي والخفي في الدين والسياسة والأخلاق... ليس معنى هذا أن رموز الحراك أقدر على طرح أسئلة مغايرة شرسة مغامرة، بل في عمق هؤلاء تنام قيم ومواقف تقليدية تترنّح بين الولاء الأعمى للديني المقدَّس والولاء الخانع للعسكري القوي.
■ ■ ■
كيف لم يُحرّر الحراك، إلى الآن، المثقّف وتركه يتأرجح مفتّشاً عن نفسه بقسوة في لجج التحولات والغضب الكاسح، العنيف في الخطابات، والشعبوي في المعاني، والفاقد في راهنه، على الأقل لتصوّرات تمنع الكبوة والسقوط في العبث واللامعنى؟ كيف لم يُبدل روحه ويُنزلها من علياء الرومانسية الحالمة إلى ساحة تنمو فيها صياغات أخرى ومفاهيم وإرهاصات قد تُخرج مجتمعاً آخر يطلّ من ظلمات وسراديب العجز والوهن والنسيان واليتم وغياب الفرح؟ لماذا لم تصعقه الحشود وهي تتدافع بين شارعَين: شارع يصنع التغير وشارع يُغيّر؟ لماذا لم يتموضع في الصدمة وبقي يتّقي بالتخمين لا يضع رجله إلا ليسحبها؟ هل من الصعب عليه أن يبشّر بموقف ويتوقّع إشارة ما قد تقوده إلى ضراوة الفعل الحقيقي ليقرّر مصيره ومعناه في الحراك قبل أن يتم الزج به عنوة من دون أن يمتلك القدرة على أن يجدّد مسامات جلده وطيّات روحه.
■ ■ ■
من المهمّ أن ينجذب المثقّف إلى أنوار وغوايات هذه اللحظة كي لا يعتل ولا تعتريه العطالة التي طالت وتكاثرت في عقله. عليه أن يتجاوز الحيل والخداع والمكر وترياق الأوهام والأضاليل التي تمنحها حقول الفضاءات الافتراضية لكي ترضي غروراً مؤقّتاً ونرجسية منتفخة وحضوراً مقنّعاً... عليه أن يتقدّم ويخطو ويبني مقدّمات وأرضيات لما يتفاعل على أرض الواقع. ليس عليه فقط أن يشارك، بل أن يتقدّم الصفوف ويعلو صوته على الضجيج والغبار والهدير. عليه أن يتقدّم كي يُقدّم ما يؤمن به ويؤمِن به الوطن الذي يتقدّم إما نحو الثورة الناجحة أو نيران الكارثة.
■ ■ ■
أيها المثقّف... لماذا لا تتقدّم؟
* كاتب من الجزائر