كأن الأشياء تغيّرت بعض الشيء، فبعد أن كان اليسار الفرنسي، عبر تاريخه، هو الأكثر تفهّماً لخصوصيّات الفرنسيين من أتباع الديانة الإسلامية، وهي مواقف كانت تحظى بانتقاد اليمين المتطرّف والكلاسيكي، وكانت توصف بأنها "مواقف ملائكية" بعيدةٌ عن كل القراءات الواقعية؛ يبدو أن النفوذ وممارسة السلطة يُغيّران.
ولأن "الأغبياء وحدهم هم من لا يُغيّرون مواقفهم"، كما يقول المثل الفرنسي، فقد تغيّر اليسار (اليسار الحاكم على الأقل)، فلم يَعُد كثيرٌ من ممثّليه يجدون حَرَجاً في انتقاد المسلمين، بكل مكوّناتهم ومجموعاتهم، لدى كل محنة تعرفها فرنسا، وخاصّة في السنوات الأخيرة، بعد وصول "الإرهاب" إلى عُقر فرنسا "الكولونيالية"، وضرب عاصمتها.
ولعلّ أكثر من يعبّر عن لغة اليسار الحاكم هذه الأيام؛ هو رئيس الحكومة الفرنسية، مانويل فالس، والذي بات يجترح مصطلحات ومفاهيم جديدة؛ فهو يتحدث عن "الفاشيّة الإسلامويّة" تارةً، وعن "الإرهاب الجهادي" تارات أخرى، ثم يرى السلفيّة، والتي يَعِدُ بـ"القضاء عليها"، حاضرةً في كل مكان.
وبينما تشرح قيادات يساريّة أخرى للرأي العام الفرنسي أن الأمن ليس من اختصاص وشواغل اليمين المتطرّف والكلاسيكي فقط، يظهر فالس ليتحدّث عن أنّه لا ينبغي على اليسار أن "يخجل" حين يتشدّد في مسألة فرض النظام، وأن عليه أن يتفهم قلق الفرنسيين الشرعي من "انعدام الأمن".
لكن عادةً ما ينظر اليمين بعين الشكّ لكلّ إصلاح يُعلن عنه في السنة الأخيرة من الحكم، بل إن أقطابه يرون أنّ كلّ قرار حكوميّ يُتّخذ في هذه الفترة يصبح موضوعا انتخابيّاً فحسب، ويجب انتقاده ومهاجمته، وهذا، تحديداً، ما تعرض له الرئيس، فرانسوا هولاند، ووزير داخليته، فالس، لدى اتّفاقهما على تعيين السياسي العجوز، جان بيير شوفنمان، رئيساً لـ"المؤسسة من أجل الإسلام في فرنسا"، بعد أن أيقظوها من مَواتِها.
صحيحٌ أن اقتراب موعد الانتخابات في فرنسا، والتي بدأت حملتها بالفعل، يجعل من كلّ قرار سياسي واجتماعي للحكومة موضوعَ جدلٍ وانتقاد؛ إلّا أنّ سياسيّي اليمين لم يكلّفوا أنفسهَم عناءَ احترام أجل الحداد بعد اعتداء مدينة نيس، وأطلقوا انتقاداتهم اللاذعة للحكومة، لدرجة المطالبة باستقالة وزراء، من بينهم وزير الداخلية، برنار كازنوف، والذي كان، حتّى وقت قريب، يحظى باحترام وتقدير نادرَين من اليمين، عبّر عنه رئيس مجلس الشيوخ، جيرار لاريه، وأيضاً رئيس الحكومة اليميني السابق، جان بيير رافاران، وغيرهما.
وإذا كان هجوم شخصيّات يمينيّة عريقة، كالرئيس السّابق، نيكولا ساركوزي، ومساعده الدائم، بريس هورتوفو، أو من عمدة نيس القويّ، كريستيان إستروزي، مفهوماً بسبب بعده السياسيّ المكشوف؛ إلا أن ثمّة نبرة مختلفة من النّقد، وهي ذات منطق فريد قد يشي بتحّول ما (أكثر اعتدالاً) في موقف اليمين من الإسلام، وقد جسّدها "النجم اليميني الصاعد"، عمدة مدينة توركوان، جيرالد دارمانين.
يرفض دارمانين فكرة زميلته، السياسيّة الفرنسيّة، ناتالي كوسيسكو، بفرض ضريبة على المنتوجات الحلال في فرنسا، لتمويل بناء المساجد والمراكز الإسلامية، إذ يرى فيها "ضريبة على ممارسة دينية، وهو ما يبدو غير منسجم مع الذهنية العلمانية"، ويقول ساخرا: "لا يمكنني تخيّل فرض ضريبة على السمك يوم الجمعة لتمويل الكنائس"، ويعترف أن "المسلمين أنفسهم ليسوا متفقين على معايير الحلال"، دون نسيان أنّ في الأمر "تشجيعا على الشعور الجمعيّ".
ويتساءل مستنكراً، في لقاء له مع صحيفة "لوجورنال دي ديمانش"، اليوم الأحد: "لماذا لا يُفعل مع المسلمين مثلما هو قائمٌ مع الكاثوليكية: يُمنح المواطن هِبَةً للإسلام، ثم يستفيد من خفض الضريبة على الدخل؟".
وعن إعادة ضخ الدماء في مؤسسة "من أجل الإسلام في فرنسا"؛ يرحبّ السياسي الشابّ بالقرار، لكنه يشترط "ترك المسلمين يديرون أمور دينهم"، لأنّ تعيين شوفنمان على رأسها قرارٌ "أبويّ" و"شبه كولونيالي"، معتبراً أنّ الرئيس هولاند "يكشف، عبر هذا التعيين، أنّه لا يعرف وضعية البلد".
ويشرح دارمانين فكرته فيقول: "نحن ننطلق من مبدأ أن المسلمين هم نوعٌ من البروليتاريا التي لا تدفع ضرائب، وأنّه ليس لهم سوى تناول لحمهم الحلال من أجل تمويل أماكن تعبدهم، ثم نكلّف شخصية سياسية من أجل إدارة مؤسّستهم، على اعتبار أنّه لا يوجد مسلمون فرنسيون أكفاء".
ولا يخفي دارمانين، صاحب بيان: "دفاعاً عن إسلام فرنسي"، أنه يحبّذ رؤية مسلمي فرنسا ينتخبون "إماماً أعظم"، على غرار "حاخام فرنسا الأكبر"، وهو ما يمثّل، في نظره، مساعدةً الإسلام على "تبنّي الحداثة"، إذ سيكون من وظيفة هذا الإمام وصلاحيته الردُّ على الفتاوى المنتشرة، خاصة فتوى أمام مسجد مدينة "بريست" التي "تحرّم الموسيقى"، ولهذا السبب، أيضاً، يرى دارمانين، ضرورة أن توكل الحكومة مهمّة رئاسة هذه المؤسسة إلى "شخصية مسلمة".