يونيو 67... النكسة المتجددة

07 يونيو 2015

متظاهر فلسطيني أمام جدار الفصل في الضفة (30 مارس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
لم تكن نكسة يونيو/حزيران 1967 مجرد هزيمة عسكرية منيت بها الجيوش العربية خلال أيام قليلة، بقدر ما كانت إفلاساً سياسياً وحضارياً وثقافياً وفكرياً لأمةٍ فقدت البوصلة داخل عصر مضطرب، يضج بالصراعات التي تحكمها السياسة، ويوجهها الاقتصاد. وقد خلفت رجة عميقة، لا زالت تبعاتها مستمرة، تلقي بظلالها على السياسة والاجتماع والفكر ومختلف أنماط السلوك والوعي. 

اختزلت هذه النكسة، إلى حد كبير، افتقاد العرب رؤية استراتيجية متكاملة وواضحة للصراع، تأخذ بالاعتبار الإمكانات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وطبيعة تفاعلها داخل سياق إقليمي ودولي، تحكمه لعبة المصالح المعقدة. كما كشفت الإخفاق المريع للعسكرتارية العربية في تحقيق وعودها بالتحرير والوحدة، وبات واضحاً أن النخب الحاكمة، على اختلاف توجهاتها الإيديولوجية، لا تختلف فيما بينها، بخصوص غياب مشروع وطني حقيقي لديها. وفي هذا الصدد، أخفق الجيش الأردني في منع إسرائيل من احتلال الضفة الغربية، ولم يستطع النظام البعثي في سورية منع وحدات جيش العدو من احتلال هضبة الجولان، بينما كانت حصة مصر من الهزيمة أكبر وأفدح؛ دمر هذا الجيش معظم قدرات سلاح الجو المصري، ثم اكتسح قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء حتى قناة السويس، مسنودا بتغطية جوية شاملة، وقُتل وأٌسر آلاف الجنود في ظل انسحاب عشوائي، كبّد القوات المصرية مزيداً من الخسائر في العتاد والأرواح. كما أن الرهان على تدخل الاتحاد السوفييتي البائد أظهر افتقاد العرب الخبرة الكافية بشأن خبايا السياسة الدولية والمعادلات الظاهرة والخفية التي تقوم عليها.
كانت لحرب 1967 تداعيات عسكرية واستراتيجية عميقة، تحولت، بمرور الأعوام، إلى "أمر واقع" تستند إليه مختلف الأطراف، وتأخذه بالاعتبار في مواقفها وتقديرها لإيقاع التحولات التي تعرفها المنطقة. وعلى الرغم من أن الجانب العربي استطاع، في حدود معينة، إرجاع بعض الثقة في جيوشه سواء من خلال حرب أكتوبر1973، أو من خلال حروب غير نظامية خاضتها تنظيمات وفصائل فلسطينية ولبنانية مع إسرائيل، على الرغم من ذلك كله، تحول هذا "الأمر الواقع" إلى إكراه جيو استراتيجي، حكم جل مشاريع التسوية المهينة وغير العادلة التي عرفتها المنطقة في العقود الخمسة الأخيرة. ولم يستطع العرب تغييره، لا بالسلاح ولا بالسياسة، على الرغم من وجود قرار لمجس الأمن (القرار 242)، يدعو إسرائيل للانسحاب من كل الأراضي التي احتلتها، وعودة اللاجئين إلى ديارهم. وعجزوا عن فتح ثغرة، ولو صغيرة، في جدار التعنت الإسرائيلي، يمكن أن تفرض على العدو مراجعة حساباته، وبالتالي، إمكانية استعادة الحقوق العربية، أو بعضها على الأقل، خصوصاً في ظل اتساع وتيرة الاستيطان والتهويد وتداعيات بناء الجدار العنصري وتراجع حل الدولتين.
من ناحية أخرى، أحدثت النكسة رجة فكرية وثقافية كبرى في المنطقة العربية، لا زالت ارتداداتها مستمرة، بصيغ مختلفة. تلقت الحركة القومية ضربة موجعة، عجلت بنهاية مشروعها التبشيري الحالم بإقامة الدولة العربية الواحدة من المحيط إلى الخليج، وتحول جزء من تنظيمات هذه الحركة إلى اليسار الراديكالي الذي انتعش مع نهاية الستينات وبداية السبعينات، في ظل انسداد الأفق السياسي والفكري داخل معظم الدول العربية. كما شكلت بداية انتعاش حركات الإسلام السياسي، بمختلف مكوناتها، وعودتها إلى الساحة، بعد فترة انحسار خلال المرحلة الناصرية. وفي هذا السياق، قدمت أنظمة دعما كبيرا ودالاً لهذه الحركات، بغرض محاصرة اليسار العربي والتضييق عليه. وأحدث ذلك الأمر حالة من التناحر الإيديولوجي والسياسي المجاني بين التيارات اليسارية والعلمانية والليبرالية من جهة والإسلامية من جهة أخرى، ما حال دون تشكل سياق فكري وثقافي، يمكن أن يساعد على تدبير الاختلاف بعيدا عن الوثوقيات العقائدية والإيديولوجية المتصلبة.

بالطبع، استفادت السلطوية العربية من هذا الوضع، في لجوئها إلى لعبة التوازن بين هؤلاء وأولئك، وهو ما ساعدها، بشكل أو بآخر، على الاستمرار في الحكم، وضبط إيقاع الصراع بين القوى الاجتماعية، وفق مصالحها الضيقة. كما عمق هذا التناحر ثقافة الاستبداد والإقصاء السياسي والاجتماعي والطائفي. وستدفع الشعوب العربية لاحقاً ثمن ذلك باهظا، أولاً من خلال الانعراجات الفكرية والتنظيمية المريعة التي عرفتها الحركات الأصولية، وكرّست، في النهاية، هيمنة الفكر الوهابي والجهادي وانتشاره، في مقابل ضعف القوى الليبرالية واليسارية المدنية، وثانياً من خلال العجز البنيوي للأنظمة عن صياغة مشاريع وطنية حقيقية، تفضي إلى إقامة دول مدنية وديموقراطية، تنبني على أساس التوزيع العادل للثروة والسلطة، وتحفظ السلم الأهلي والنسيج الوطني. وقد أظهرت المآلات المأساوية للربيع العربي أن إخفاق الثورات في تحقيق تحول ديموقراطي منتج لتعاقدات اجتماعية وسياسية جديدة يكمن، في جانب كبير منه، في غياب الخبرةَ الكافية لدى الجميع في إدارة الصراع وتوجيهه، بسبب غياب ثقافة الاختلاف وحرية الرأي والتعبير وقبول الآخر.
زيادة على ذلك، تعمّقت أزمة الهوية في الخطاب السياسي العربي، وظهرت تنظيرات وكتابات، ظلت، في معظمها، تتخبط بين ماض لا يكاد يقدم شيئا، ومستقبل غير واضح في ظل التفوق التقني والعلمي والفكري والثقافي الغربي. وقد ألقى ذلك بظله، بشكل أو بآخر، على النخب المعارضة التي أخفقت في بلورة مشروع واضح ومتكامل للإصلاح السياسي والاجتماعي، وانتهت، في معظمها، إلى الاحتماء بخطاب سياسي مفلس ومتجاوز، أو إلى الاندماج في مؤسسات السلطة وهياكلها، والقبول بما تمنحه الأخيرة. وقد كشفت الثورات العربية، بشكل واضح، أزمة هذه النخب، وكيف أنها فوجئت بهذه الثورات، ما أحدث لديها حالة ارتباك غير مسبوقة، فعجزت عن الانخراط في مختلف الأسئلة والقضايا التي أفرزها مسار الأحداث على الأصعدة كافة.
لم تكن المتغيرات التي عرفها العالم العربي، في العقود الأخيرة، إلا إعادة إنتاج لنكسة يتجدد إيقاعها، كل مرة، بصيغ متباينة، فلم يعد الأمر يتعلق فقط بأراض عربية احتلتها إسرائيل بقوة السلاح ودعم الولايات المتحدة والغرب، قبل حوالي خمسين عاما، بل أضحى ذلك عنوانا لأزمة عامة وشاملة، لا تتوقف عن إفراز توتراتها المختلفة.