النظام العالمي الجديد يلفظ أنفاسه في غزّة
على الرغم من أنّ شيوع توظيف مفهوم النظام العالمي الجديد في أدبيات العلاقات الدولية يعود إلى حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة، إلّا أنّ المفهومَ يُشير إلى اللحظات التاريخية المفصلية التي اتَّسمت بتحوُّلٍ عميقٍ في علاقات القوَّة على الصعيد الدولي، على الأقلّ منذ مطلع القرن العشرين، فقد أذنت نهاية الحرب العالمية الأولى بإقامة نظامٍ عالميٍّ جديدٍ، سرعان ما تداعت ركائزُه الهشَّةُ بعد نشوب الحرب العالمية الثانية. وبنهايتها، وبهزيمةِ النازيّةِ، تأسَّس نظام الثنائية القطبية، الذي دام أكثرَ من أربعة عقود. وهو النظام الذي سيُعجِّل بنهايته انهيار المعسكر الشرقي وتفكُّك الاتحاد السوفييتي، ليحلَّ محلَّه نظامٌ عالميٌّ آخر بقيادة الولايات المتّحدة؛ هذا النظام يبدو في طريقه إلى التفكُّك، بعدما خرج الوحش الإسرائيلي عن السيطرة، وتخطَّت حرب الإبادة التي يشنُّها ضدَّ الشعب الفلسطيني المظلوم في قطاع غزّة الحدود كلّها، من دون أدنى اعتبارٍ للقانون الدولي، ولا حتَّى لحلفائه في الغرب الذي من المُؤكَّد أنّه سيدفع، آجلاً أم عاجلاً، قسطاً غيرَ يسيرٍ من هذه الإبادة من أرصدته الحضارية والقيمية والثقافية المعلومة. وللإشارة، كانت قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان اليافطةَ العريضةَ التي حملها هذا الغرب وهو يخرج مُظفَّراً من حربه الأيديولوجية ضدَّ المعسكر الشرقي.
أسقطت حرب غزّة آخرَ أوراق التوت عن الغرب، وكشفت نِفاقَه ومعاييرَه المزدوجةَ في تعاطيه مع النزاعات وبُؤَر التوتُّر في العالم؛ فبعد انصرام أكثر من عشرة أشهرٍ على بداية العدوان، يقف عاجزاً أمام آلة القتل الإسرائيلية. حتّى منظومة العدالة الدولية، التي يُفترَض أنّها تحوز الحدَّ الأدنى من الامتثال لأحكامها وقراراتها، لا يبدو أنّ دولة الاحتلال تُعيرها أيَّ اهتمامٍ، بعدما وصلت لنقطة اللاعودةِ في ما ترتكبه من مجازرَ مُروّعةٍ بشكل يكاد يكون يومياً. إنّ ضربها عُرْضَ الحائط بما صدر عن محكمة العدل الدولية مُؤشِّرٌ دالٌّ إلى أنّ النظام العالمي، القائم حالياً، فقد شرعيته الأخلاقية والقانونية والسياسية. فأيُّ معنى سيكتسيه، بعد الآن، ترافعُ مؤسّساتِ الغرب ومنتدياته ونُخَبه عن الديمقراطية ونزاهة الانتخابات واحترام الحقوق والحرّيات العامَّة ومناهضة التعذيب والقضاء على أشكال التمييز كلّها ضدَّ المرأة وحماية حقوق الطفل، في وقت يتعرَّض فيه الفلسطينيون في غزّة لمحرقةٍ مفتوحةٍ بتواطؤٍ من الدول الغربية الكبرى وحلفائها في الإقليم؟
تتحمَّل الولايات المتّحدة مسؤوليةً تاريخيةً في هذا المُنعطف التراجيدي بانحيازها السافر لدولة الاحتلال، وبقبولها ارتهانَ سياستها الخارجية لنفوذ اللوبي الصهيوني، ليس بدعمها العسكري واللوجيستي فقط، ولكن أيضاً بعجزها عن توفير تغطيةٍ سياسيةٍ وقانونيةٍ وأخلاقيةٍ لما يحدث في غزّة. وبذلك تكون قد عبَّدت نصف الطريق أمام روسيا والصين لإعادة تموضعهما ضمن خريطة القوَّة والنفوذ في العالم، مستفيدتَين من سقطتها الأخلاقية الكبرى في غزّة.
في السياق ذاته، يواجه الغربُ، وبالأخص الولايات المتّحدة، معضلةَ إعادةِ النظرِ في المسألة اليهودية، بعدما وصلت الصهيونيةُ لسقف غير مسبوقٍ من التوحُّش. صحيحٌ أنّ ذلك لا يزال غيرَ معلنٍ في دوائر السياسة والإعلام، لكنّ نجاح المقاومة في إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث، ووقوفِ المجتمعات الغربية على الحقائق التاريخية للصراع، والتصدُّعات التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي في أكثر من واجهة، ذلك كلّه جعل طيفاً عريضاً من الرأي العام الغربي قادراً على التمييز بين معاداة الساميّة، التي وظَّفتها إسرائيل للتملُّص من المساءلةِ وإنكارِ الحقوق الفلسطينية المسلوبة وإخفاء حقيقتها التوسّعية والاستعمارية بغطاء دولي وأممي، ومعاداة الصهيونية، باعتبارها حركةً استعماريةً واستيطانيةً، وابنةً شرعيةً للإمبريالية الغربية بمختلف تبدِّياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية.
قد لا يكون من التزيّد القولُ إنّ النظام العالمي الجديد يلفظ أنفاسه في غزّة، ما يُشكّل ضربةً للأمم المتّحدة بمؤسّساتها وأجهزتها كلّها، ويُسائِلُ شرعيتها، إذ لم تكتفِ بأن تكون غطاءً لتقسيم فلسطين واغتصابها بإصدار قرار التقسيم الجائر، بل تقف، اليوم، عاجزةً عن إيقاف حرب الإبادة في غزّة، لارتهان إرادتها للدول الغربية الكبرى، وفي ذلك ما يجعل الحاجةَ إلى قيام نظامٍ دوليٍّ جديدٍ أكثرَ من مُلحَّة.