كان يفترض أن يكون 25 مايو/أيار يوماً للاحتفال بتحرير الجنوب اللبناني من العدو الإسرائيلي فقط. عام 2000، خرج الإسرائيليون من لبنان وأقفلوا وراءهم بواباتهم على فلسطين، تاركين جيشاً من العملاء الفعليين والكثير من الروايات التي تحكى عن مقاومة حرّرت بالقوة أولى الأراضي العربية من الاحتلال الإسرائيلي. بعد 15 عاماً على هذا الانتصار، أصبح لهذه الذكرى طعم مختلف تماماً، إذ بات هذا التاريخ، اليوم، يعني مرور عام كامل على الدولة اللبنانية بلا رئيس للجمهورية. ليل 24-25 مايو/أيار 2014، حدث انسحاب مختلف، إذ خرج رئيس الجمهورية السابق، ميشال سليمان، من القصر الرئاسي بفعل انتهاء ولايته. وبعد مرور عام كامل، لا يزال هذا القصر مهجوراً، وبسط فراغه على ما تبقى من مؤسسات الدولة التي تعمل بالحد الأدنى. فسُجّل لهذا اليوم التاريخي طعم آخر يتمثل بانسحاب الدولة من بلدها.
طوال هذا العام، دعا رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، إلى عقد 23 جلسة لانتخاب الرئيس، باءت كلها بالفشل، بفعل عدم اكتمال نصابها. يستمرّ الوضع على هذا الحال إلى حين يشاء مقاطعو الجلسات الانتخابية العكس، أي إلى حين يحدّد حزب الله وحليفه النائب ميشال عون، المرشح للرئاسة، وغيرهما من الحلفاء "الصغار"، أنّ الأزمة باتت مستفحلة لدرجة تدفع كتلهم النيابية إلى المشاركة في انتخاب الرئيس.
وسط كل ما يجري في المحيط العربي من حرب ودمار، تحوّل طموح القيادات اللبنانية إلى المحافظة على بلدهم بعيداً عن هذه النار، ولو جاء ذلك على حساب النظام ومؤسساته الشرعية والدستورية.
اقرأ ايضاً: عام من الفراغ الرئاسي في لبنان
يجمع دستوريون وقانونيون على أنّ الأزمة باتت في هذا النظام نفسه، بفعل تنامي الطموحات السياسية للكتل الطائفية، وحرص كل منها على تحصيل ما يعتبره من حقه. فتحت أزمة الرئاسة والنظام الأبواب أمام اقتراح النائب ميشال عون تعديل الطائف لانتخابه رئيساً، بتغيير النظام البرلماني والاحتكام مباشرة إلى الشعب في هذه الانتخابات، من خلال استفتاء على الرئيس بين المسيحيين، ثم استفتاء آخر بين شعوب الطوائف الأخرى.
كما فُتح الباب مجدداً أمام مطالبة حزب الكتائب والقوى المسيحية الأخرى بـ"اللا مركزية الإدارية"، التي لم يحسم شكلها بعد، ولو أنها يمكن أن تحمل معاني كثيرة، منها: "التقسيم" أو "الفدرالية"، وهو ما ليس واضحاً أيضاً في الصيغة الكتائبية. وكذلك هي حال طرح مبدأ "المثالثة" في السلطة بين الشيعة والسنة والمسيحيين، عوضاً عن "المناصفة" بين المسيحيين والمسلمين المعمول بها منذ تأسيس لبنان الكبير، وإقرار الوثيقة الوطنية في عشرينيات القرن الماضي.
كل هذا النقاش يمرّ، في حين أنّ ممارسة السلطة باتت في أزمة. وإذا كان النقاش حول شكل النظام مؤجلاً اليوم إلى حين حسم ميزان القوة والتمثيل في المحاور الإقليمية، فإنّ الدولة اللبنانية تسير برجليها نحو الخراب. أصبح أي قرار حكومي يحتاج إلى توقيع جميع الوزراء في الحكومة الذين ينوبون مجتمعين عن رئيس الجمهورية، وهو ما ينص عليه الدستور. لكن يبقى ارتباط أزمة الشغور الرئاسي بأزمة النظام اللبناني ارتباطاً وثيقاً، إذ تطالب كل الكتل السياسية اللبنانية بقانون جديد للانتخابات النيابية، لكن إقرار مشروع مماثل يستوجب موافقة وتوقيع رئيس الجمهورية ميثاقياً وفي الشكل أيضاً.
اقرأ أيضاً تسريبات نصرالله وتهديد المعارضين: كل من يخالفنا خائن
إذاً، المطلوب تنظيم انتخابات نيابية والإتيان بمجلس نيابي جديد قادر على انتخاب الرئيس. ولأنّه لا يوجد قدرة على تنظيم هذه الانتخابات ولا على إقرار قانون انتخابي، تمّ إيجاد المخرج بالتمديد للمجلس النيابي حتى يونيو/حزيران 2017، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. حتى إنّ جلسات مجلس النواب التشريعية تعطلّت بفعل مقاطعة القوى المسيحية لها في ظل الشغور الرئاسي، إذ ترفض هذه القوى التشريع، معتبرة أنّ أولى واجبات البرلمان انتخاب رئيس للجمهورية.
ومن خلال أزمة هذه المؤسسات، يمكن الإشارة إلى الملفات الحياتية والأساسية التي أصبحت مكدّسة على طاولة البرلمان والحكومة، وأبرزها التعيينات الإدارية التي تمهّد لأزمة فعلية داخل الحكومة اليوم. يبدو الخلاف واضحاً بين الكتل الوزارية حول التعيينات الأمنية والعسكرية، ولا أحد قادراً على حسم هذا الخلاف بين الوزراء، في ظل غياب رئيس الجمهورية الذي من الأعراف أن يعيّن بشخصه قائداً للجيش، وأن تكون له كلمة الفصل في التوقيع على مراسيم التعيين.
وبينما تسير المؤسسات الأمنية نحو شغور من نوع آخر، أو باتجاه التمديد لقادتها، فإنّ الحديث عن الوضع الأمني في لبنان يستوجب وقفة من نوع آخر. وقف الرئيس ميشال سليمان في الأسابيع الأخيرة من عهده في وجه استباحة الحدود اللبنانية ذهاباً وإياباً باتجاه سورية. أعلن تمسّكه بـ"إعلان بعبدا" (يونيو/حزيران 2012)، وكان أبرز بنوده، موافقة الكتل السياسية اللبنانية على تحييد لبنان عن الأزمات في المنطقة، وأوّلها الحرب في سورية. تمّ التوافق والتأكيد على هذا النص خلال اجتماعات هيئة الحوار الوطني التي ترأسها سليمان بين أعوام 2010 و2014، وشمل الرفض الرئاسي لتدخل حزب الله في سورية. ولو أنّ هذا الرفض كان شكلياً ورمزياً وغير مؤثر على الأرض، إلّا أنه كان يشير إلى وجود دولة ورأس يؤكدان على احترام الدولة اللبنانية ودورها وسيادتها وحدودها. في حين أن الحكومة ورئيسها عاجزان عن خوض تجربة مماثلة، باعتبار أنّ مجلس الوزراء خاضع للتوازنات السياسية، أي لهيمنة حزب الله بشكل أو بآخر.
اقرأ ايضاً: جهود فاتيكانية "وسطيّة" لملء الشغور الرئاسي
يأتي هذا الشغور ليسمح باستباحة حزب الله للحدود وتنفيذ وعوده ومشروعه السياسي إلى جانب النظام في سورية، وما في ذلك من جرّ للأزمة السورية إلى لبنان.
أبسط تجليّات الشغور الرئاسي، لاحظها اللبنانيون خلال مشاركة الدولة اللبنانية في القمة العربية الأخيرة التي عقدت في شرم الشيخ (مارس/آذار الماضي). تخبّطت مواقف المسؤولين اللبنانيين، تحديداً رئيس الحكومة تمام سلام ووزير الخارجية جبران باسيل. بين تأكيد سلام على دعم الإجماع العربي ومن ضمنه تشكيل القوة العربية المشتركة، وتشديد باسيل على احترام لبنان سيادة الدول العربية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، تعمّقت الأزمة السياسية اللبنانية أكثر، وبات البحث عن مخرج لها يستوجب الكثير من الشروط، وجزء منها غير ميثاقي، كانتخاب المجلس الحالي الممدد لنفسه رئيساً للجمهورية. على الرغم من كل ما يحصل، يتابع اللبنانيون حياتهم بشكل شبه طبيعي، تماماً كما كانوا يفعلون طوال سنوات الحرب الأهلية.