تحل الذكرى الخامسة والثلاثون لـ"الربيع الأمازيغي" ضيفاً إشكالياً على المشهد الجزائري، كما في كل سنة، بين جفاء السلطة وتحمس فئة من المواطنين، ولامبالاة البقية.
وبعيداً عن الدعاوى الفجة لطرفي المعادلة، وبمعزل عن التجاذبات السياسوية بين السلطة وأصحاب المكاسب الظرفية، فإن الربيع الأمازيغي عبّر عن حراك ثقافي واجتماعي ضد نظرة اختزلت النسيج الاجتماعي المتنوّع لعدد من البلدان العربية إلى بعد واحد متمركز ومنغلق على ذاته. اختزال بررته آنذاك جرعة زائدة من هوس االذات المُستقلة حديثا في مواجهة مركزية غربية طاحنة.
مع قدوم الشاذلي بن جديد عملت السلطة في الجزائر على اعتناق شعار عروبة/إسلام اعتناقاً خلاصياً، في محاولة للتخلّص من التركة الاشتراكية لنظام بومدين وتجاهل الحراك السوسيوثقافي في منطقة القبائل. تجاهل عجّل في بروز شعار مضاد هي الأمازيغية/العلمانية.
أدى صراع الشعارات والمفاهيم هذا إلى تزييف المشكلة. فالربيع الأمازيغي، من حيث الجوهر، كان تعبيراً عن توق جزائري إلى جرعات من الحرية افتُقدت في نظام الحزب الواحد منذ الاستقلال، وهو ما أغفله صنّاع القرار وقتذاك، فكانت تهم "العمالة" و"الأيادي الخارجية" تزييفاً إضافياً للمشكلة أدى إلى تلفيق حلول أشد زيفاً. لم تصمد هذه "الحلول" سوى سنوات قليلة، ليتكرر هذا الحراك في أشكال عدة بعدها بسنوات خصوصاً في أحداث أكتوبر 1988.
والواقع اليوم، بعد أكثر من ثلث قرن، أن الثقافة الأمازيغية، وبخاصة اللغة -رغم التجميليات الرسمية - تعيش مأزقاً وجودياً حقيقياً، فنسبة تداولها محدودة وتدريسها في الأطوار التعليمية يقتصر على مناطق قليلة نسبياً، وذلك في ظل سياسة رسمية خجولة تقتصر على إظهار الجانب الفلكلوري من هذه الثقافة الغنية، وغياب أدوات تجديد لغوي وثقافي.
إن تحرير هذه اللغة من البلاغيات الهُوَوِّية والأيديولوجيات الكفيفة يتطلب إرادة جدية وجريئة لا تقتات على الماضي وتحيّنه، بل تتحسس بعين الحاضر النقائص والصعوبات المعرفية التي تواجه هذه اللغة في سبيل بعث جديد للسنونو الأول في هذا الربيع. فاللغة الأمازيغية تحتاج إلى اجتهادات لغوية لسانية ومشروع ثقافي جامع أكثر من حاجتها إلى خطابات سياسوية تتمترس خلف هويات مُتعالية، أمازيغية كانت أم عروبية، آخذة بعين الاعتبار أن الثقافة واللغة تزدهر بانفتاحها على الروافد الحضارية المجاورة.
تغدو اليوم استعادة هذا البعد الثقافي الأمازيغي كمكون راسخ في النسيج الجزائري ضرورة ملحة، من أجل تجنب فخاخ الهوية، كما حصل مؤخراً في "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية"، حين تعالت دوغمائيات صاخبة ونفي متبادل، حجبت الصورة الأنصع، صورة الاختلاف والتعدد كمكسب إنساني خالد للمنطقة العربية.