أبو الفلاح يكتب عن دولاب الدولة المصرية (2)
في موضع آخر من مذكراته يشير نوبار باشا إلى نمط شائع ومتكرر عبر السنين وحتى الآن في إدارة الدولة المصرية لملف مهم وشائك مثل ملف العلاقة بين المسلمين والمسيحيين أو ما أصبحنا نسميه منذ عقود "ملف الوحدة الوطنية"، حيث يفضل الحاكم في أحيان كثيرة اتخاذ قرارات عادلة لا تلقي اعتباراً لفكرة الأغلبية والأقلية، ولكنه مع الأسف يفعل ذلك بشكل فردي يستغله أعوانه في تمجيده وتأييده، بدلاً من أن يقوم بتكريس مناخ المساواة والتسامح بشكل قانوني وتشريعي يستفيد منه الجميع.
يروي نوبار عن جريمة حدثت في الإسكندرية ذات يوم ارتكبها "مراكبي وطني" ـ يقصد أنه كان من أهل البلد ـ وكان الضحية شاباً مسيحياً من أصول أجنبية تم إلقاء جثته في الماء بعد قتله، وحين تم اكتشاف القاتل صدرت الأوامر بالقبض عليه وإرساله إلى السجن لحين تنفيذ حكم الإعدام فيه، ونصبت المشنقة بالقرب من عمود بطليموس، وسارت جموع غفيرة خلف المحكوم عليه بالإعدام أثناء اقتياده لتنفيذ حكم الإعدام، وكان كثير من السائرين خلفه يشعرون بالمهانة ويرددون همساً ـ حسب تعبير نوبار ـ "كيف يُشنق مسلم لأنه قتل كافرا؟! ألم يعلمنا أساتذتنا أن حياة مسلم تساوي حياة عشرة من الكفرة إذا تم شنق هذا الرجل فعلينا إذن أن نقتل تسعة آخرين من هؤلاء المسيحيين الكلاب؟"، لكن كل هذه الهمسات اختفت بتدخل من طاهر بك رئيس البوليس ـ الذي يحرص نوبار على وصفه بأنه كان أعرج ـ بعد أن أعلن أن الوالي أمره أن يشنق إلى جوار القاتل أي شخص تسوِّل له نفسه إبداء أقل ملاحظة على تنفيذ الحكم، فانصرفت الجموع فجأة واختفت، لكن الحاكم لم يهتم بتعديل المواد القانونية التي تستند إلى نصوص عفا عليها الزمن لتكرس غياب المساواة أمام القانون بين المسلمين والمسيحيين، ولم يحرص على التأكيد على خطأ هذا التفكير السائد بين المواطنين المسلمين ويشير إلى منافاته لمبادئ العدل والإنسانية، لتبقى نار الفتنة الطائفية حية تحت الرماد، وتنتظر الاشتعال في أي لحظة مواتية.
في واقعة أخرى يروي نوبار أن محمد علي باشا أمر ذات يوم بأن يرسل كبير السُيّاس الخاص به فرساً هدية إلى أحد أمناء سره الذي كان مسيحياً، ثم اكتشف محمد علي بعد ذلك أن الفرس المهداة كان بها عيب، فنادى على كبير سُيّاسه ليحضر إليه في الديوان وقال له غاضباً: كيف اخترت فرسا معيبا لتعطيه لفلان بينما أمرتك لتعطيه فرسا جيداً، فرد عليه كبير السياس: لكن الذي اخترته يا سيدي حسن جدا بالنسبة لكافر، فقال له محمد علي إن الكافر هو الذي لا ينفذ أوامري، وأمر أن يعاقب في الحال وأن يُضرب بالعصا على قدميه، لكن الباشا في نفس الوقت لم يبذل مجهودات مماثلة لكي تمتد روح المساواة والعدالة إلى سائر القوانين والتشريعات الحافلة بمظاهر التمييز الطائفي، لتظل الأوضاع محتقنة بين المسلمين والمسيحيين، وهو ما تكرر في كل عهود حكام مصر الذين كرسوا لاحتفاليات موائد الوحدة الوطنية ومظاهر الدعم الرسمي لحقوق المسيحيين، دون أن يهتموا بصدور القوانين التي تقضي على التمييز الطائفي أو القضاء على مظاهره الموجودة في كافة مناحي الحياة.
شاع بين الناس أن محمد علي باشا رأى قبل رحيل إبراهيم إلى القسطنطينية رؤيا تتحدث عن سفر ابنه وولايته وأنه سيتوفى بعد عودته، وهو ما حدث بالفعل
من أجمل أجزاء مذكرات نوبار باشا وأكثرها درامية الأجزاء التي يرسم فيها صورة مدهشة للعلاقة بين محمد علي باشا وولده إبراهيم باشا، خصوصاً في الفترة التي لمع فيها نجم إبراهيم باشا بعد بطولاته العسكرية، وتحول إلى شخص "يخيف الجميع لدرجة أن الكل كان يتوقع أن ينقلب على أبيه"، لكن إبراهيم باشا كان في الوقت نفسه خائفا جدا من أن يقتله أبوه، لدرجة أنه حين ذهب مرة إلى القصر ليقابل أبيه فوجئ أحد حراسه من المماليك به يقول له "اضرب بسيفك من سيقوم بإعطاء أمر قتلي"، وفي الوقت الذي كان الجميع يلهج عليه بالثناء بسبب عودته منتصراً من الشام، تلقى إبراهيم باشا خطابا مليئا بالعتاب والنقد أرسله له أبوه، وتأثر إبراهيم باشا بالخطاب لدرجة أنه "أمضى اليوم كله نائما واضعا الخطاب على بطنه وقال أريد أن يُدفن هذا الخطاب معي وذلك من شدة الاتهامات وقسوة العتاب الظالم الذي لا أساس له، إنه يحمل لي اتهامات أريد أن أحملها معي إلى القبر".
يقول نوبار باشا وهو يتذكر علاقته بإبراهيم باشا: "لم يكن ابراهيم باشا ينام الليل أو غالبا كان ينام قليلا وكان نومه متقطعا دائما، وكان عادة يرسل في طلبي لنتجاذب معا أطراف الحديث كي ينسى همومه قليلا، سألت ذات يوم العبد الحبشي عمر الذي كان يسهر معنا أيضا هل يستمر هذا الوضع لمدة طويلة، فأجابني: "آه نعم إن الرجال الذين قتلهم يجيئون لإيقاظه من نومه ليلا". كان إبراهيم باشا تحت تأثير كأس أو اثنين من النبيذ والشمبانيا يقوم ليلقي خطبا واشعار غريبة وعيناه تلمعان كالوهج وملامح وجهه تتغير وجبينه يتسع من تأثير الحرارة المتوقدة من جسمه".
يكمل نوبار قائلاً: "في ابريل 1848 لم يكن في استطاعتنا إعلان جنون محمد علي، ولم يكن من الممكن أيضا الاعتراف بسلامة قواه العقلية، أراد ابراهيم أن تكون له السلطة الفعلية وليس الوصاية، ومن ناحية أخرى كان يخشى من فكرة شفاء والده الذي سيجعله يدفع حياته ثمنا لكل عمل فعله لتدعيم سلطته رسميا، لأن محمد علي كان يعتبر ذلك اغتصابا للسلطة. بدأ إبراهيم ينزف من دمه فلجأ إلى كلوت بك ليعطيه دواء ناجعا، نفعه الدواء قليلا لكنه عاد لينزف مجددا من رئته، جاء عراف القصر ليعلن أنه بعد استشارة الكواكب كان الرد أن ابراهيم سيموت قبل ستة أشهر وكانت هذه النبوءة تتفق مع ما أعلنه أيضا طبيب القصر النمساوي المكلف برعايته، فبعد أن قام بفحصه تبين له أن ابراهيم يتقيأ الدم من فمه نتيجة إصابة خطيرة في الرئة. كان خائفا على حياته ويعاني من خشونة الصوت نتيجة التهاب حباله الصوتية من جراء القيئ المستمر ومن خوفه إلى حد الرعب من والده وأن يعود إلى مصر ليجد أن صحة والده قد تحسنت، وكان يهذي بذلك مدركا أن شفاء محمد علي فيه ضياعه الأكيد، ولذلك انتابته نوبة أخرى من حالات الاضطراب النفسي وظل يهذي وصحته تتردى حتى لفظ أنفاسه الأخيرة".
يصف نوبار باشا "اللامبالاة المهينة التي لازمت تشييع إبراهيم باشا إلى قبره"، في الوقت الذي كان أبوه يعيش "غفلة ذهنية مستمرة"، وحين كان يفيق منها ويطوف شوارع القاهرة في حراسة مماليكه وسط جموع المصريين الذين كانوا ينظرون إليه باحترام، ولا يتعاملون مع غفلته بوصفها عيباً بل يرون أنه "مجذوب وملهم من الله"، وشاع بين الناس أن محمد علي باشا رأى قبل رحيل إبراهيم إلى القسطنطينية رؤيا تتحدث عن سفر ابنه وولايته وأنه سيتوفى بعد عودته، وهو ما حدث بالفعل، أما محمد علي باشا فحين أخبروه بوفاة ابنه التي لم يكن منتبهاً حين وقعت، فقد قال لمن أخبره بها "كنت أعرف، لقد حبسني كان قاسيا معي كما كان مع الجميع، لقد عاقبه الله وأماته، لكني أجد نفسي بوصفي أبوه من الواجب علي أن أترحم عليه وأدعو له الله"، وبعد أن قال محمد علي هذه الكلمات عاش لعدة أشهر قبل أن توافيه المنية، وكان حتى آخر لحظة يسيطر عليه تصور أنه لا زال محبوساً بأمر من إبراهيم ورجاله الذين لا زالوا يسيطرون على السلطة، ويروي نوبار مشهدا دراميا حدث يوم 18 نوفمبر 1848 حين أتى عباس حلمي حفيد محمد علي باشا ليقبل يده قبل سفره إلى القسطنطينية، "فقال له محمد علي: لقد لعنت إبراهيم لأنه حبسني ولذا قبض الله روحه فلا تتصرف نحوي مثله إذا كنت تريد ألا ألعنك أنت أيضا، فطمأنه عباس وقال له وهو يقبل يده مرة أخرى: أنت سيدنا وستظل كذلك دائما"، ليتصاعد هذيان محمد علي باشا في أيامه الأخيرة ويسمعه المحيطون به وهو يتخيل نفسه على رأس جيشه وهو يدحر جنود القيصر من على أسوار القسطنطينية، لتكون تلك الصورة هي آخر ما سيطر على تفكيره قبل أن يفارق الحياة.
...
نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.