أبو تريكة يا عم الناس!
واحدة من مفارقات كأس العالم المقامة حالياً في قطر أنْ أحد أبرز نجومها بالنسبة لأبناء المنطقة العربية هو لاعب لا يشارك فيها، ولم يتأهل منتخب بلاده للبطولة أصالاً، إنه الماجيكو محمد أبو تريكة، أحد أفضل من لمسوا الكرة بين اللاعبين العرب، وأفضل من يلامس القلوب مع كلّ طلة، مع كلّ تصريح، مع كلّ مرّة ينحاز فيه للإنسانية، أو ينافح عن دينه وأمته، فضلاً عن إبداعه في التحليل، مثلما كان يبدع في المراوغة والتسجيل!
المدهش أنّه ليس بينك وبين محمد أبو تريكة أيّ صلة قرابة، لكنك كلّما رأيته على الشاشة شعرت بأنّ هذا الرجل قريب ومألوف، كأنه كان يجلس معك منذ قليل، تشعر بأنّه يشبه اجتماع عائلة أردنية على أكلة المنسف يوم الجمعة، أو مثل عبور الفلسطيني للجسر قاصداً بلاده التي لم يزرها من قبل، أو مثل شجرة نخيل عراقية لم تهزها الفتن، أو مثل سوق الحميدية في دمشق ليلة العيد، أو مثل شوارع بيروت المعبّدة بالأماني رغم الواقع المرير... أبو تريكة الذي حالوا بينه وبين بلاده، وضيّقوا عليه، ولفقوا له أبشع التهم، فوجد نفسه يقتحم كلّ بيت عربي، وصارت كلّ بلادنا بلاده!
منذ عام 2006 وهو يبدع في تسجيل المواقف المشرّفة والحاسمة كما كانت أهدافه تماماً، فخلال المباراة النهائية لكأس أمم أفريقيا بين مصر وكوت ديفوار كشف عن قميص أبيض كُتب عليه: "نحن فداك يا رسول الله"، بعد نشر الصحافة الدنماركية رسومات مسيئة للنبي الأعظم عليه الصلاة والسلام، ثم عاد في النسخة التالية من ذات البطولة عام 2008، ورفع بعد تسجيل هدف في مرمى السودان قميصاً كتب عليه "تعاطفاً مع غزة"، بينما كان القطاع المحاصر يتعرّض لقصفٍ عنيف من أرذل فئة عرفتها البشرية، فضلاً عن تضامنه الدائم مع ضحايا جماهير النادي الأهلي في حادثة ملعب بورسعيد عام 2012.
أبو تريكة الذي حالوا بينه وبين بلاده، وضيّقوا عليه، ولفقوا له أبشع التهم، وجد نفسه يقتحم كلّ بيت عربي، وصارت كلّ بلادنا بلاده!
وحتى حين احترف مع نادٍ إماراتي اختار الرقم (72) نسبة إلى عدد القتلى في المباراة التي جمعت فريقه مع المصري البورسعيدي، ثم عاد قبل عامين ليطالب المشاهدين بمقاطعة البضائع الفرنسية، ردّاً على تأييد الحكومة الفرنسية للرسوم المسيئة للنبي الكريم، وها هو يبدع اليوم في تقزيم الرجل الأبيض المتغطرس (وخصوصا الألماني) الذي يهاجم قطر لأنها قرّرت حظر رفع أعلام وشعارات المثلية داخل ملاعب المونديال وخارجها، قائلاً لهم: "احترم نفسك أنت وهو"، بل لإنه أبدع وأقنع حين قال: "كما يقول ابن خلدون، فإنّ المغلوب مولع بتقليد الغالب… فيما قبل كنا نحن من نقلدكم... أما الآن فلا". أبو تريكة أكثر من علّمنا أنّ الخلط بين السياسة والرياضة واجب، طالما أنّ الغرب المنافق الذي يصدر لنا قوانين حقوق الإنسان انحاز لأوكرانيا ودافع عنها حتى في الرياضة، بينما حرم ذلك في الحالة الفلسطينية، وها هو يصدر قوانينه البائسة مثله من خلال الرياضة!
نحتاج الآلاف مثل محمد أبو تريكة، نحتاجهم في الرياضة، وفي السياسة، وفي الغيرة على الدين والعروبة وهموم الأمة. نحتاج أبو تريكة في الأخلاق، فرغم طلاقته وقدرته على التعبير لكنك من نظرة واحدة في وجهه تعرف أنّه يخجل من خياله، وهذا أجمل ما في "عم الناس" كما يلقبه المصريون: فهو يغار من خياله فعلاً، لكنه جسور في الدفاع عن الحق أنّى كان!