ديمقراطية أم نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا؟
لا ريب في أنّ الشعوب العربية أكثر شعوب العالم تذوّقاً لحلاوة الديمقراطية، فنحن نرضعها مع حليب الطفولة، وحتى قبل أن نبلغ الحلم، يكون لنا مطلق الحرية باتباع ما ألفينا عليه آباءنا وأجدادنا، نتطبّع بطباعهم، نحبّ ما يحبون، ونبغض ما يبغضون، ونعلن الولاء المطلق للسلطة كما أعلنوه. أما إذا خالفناهم فلدينا مطلق الحرية أيضاً أن نختار بين انقطاع المصروف أو التشرّد خارج البيت، إنها الديمقراطية التي نمت في حياتنا بشكل كبير، بعد ثورات الربيع العربي. قبل الثورات كان علينا أن نهتف رغماً عن أنوفنا "الرئيس حبيب الشعب"، وبعد أن جاء الربيع العربي وفهمت الشعوب أنّها مصدر السلطات، تغيّر الهتاف تماماً، وصار من حقنا أن نهتف بكلّ حرية: "الشعب يحب الرئيس"!.
في كتابه "يُحكى أن..عن الذات والحرب والثورة"، يروي الكاتب المصري، أسعد طه، ما معناه أنّ الشعب المصري لم يجرؤ أن يُشهر كلمة "لا" في وجه الرئيس (ويقصد جمال عبد الناصر) إلا مرّة واحدة فقط. حدث ذلك حين أراد الرئيس الأسبق، جمال عبد الناصر التنحي عن منصب رئيس الجمهورية! عندها انتفضت الجماهير لتقول "لا وألف لا"، أو ربّما على طريقة المصريين "هو دخول الحمام زي خروجه ولا إيه"، لكن حتى كلمة "لا" هذه مشكوك بصحتها، فقد تردّدت الأقاويل أنّ خروج الرافضين لتنحّيه كان مجرّد مسرحية مُعدّة مسبقاً ومدفوعة الثمن!
وهكذا، لم نزل مكانك سر، وليس لنا من أمرنا شيء إن عذبونا أو تابوا علينا، فكلمة "لا" ممنوعة من الصرف في حضرتهم، إلا إذا كانت في مصلحتهم، فخياراتنا محصورة في أن نقول لهم: "لا تتوقفوا عن استغفالنا، لا تتوقفوا عن البطر على حساب فقرنا، ولا ترفعوا لنا راية أو تحققوا لنا غاية، المهم رايتكم، والقصد غايتكم".
إنها ثقافة الخنوع التي تربينا عليها، وسياسة الإملاءات التي فرضت علينا منذ الطفولة، وحتى اختيار التخصّص الجامعي، وما زلت أتذكر كيف درست العلوم السياسية لأنّ أهلي كانوا معحبين بوزير من عائلتنا درس التخصّص نفسه، كانوا يريدونني أن أقتدي به، لكنني خيّبت ظنهم وصرت كاتبا.
عليك أن تمدح السلطة إذا أردت أن تحجز مكاناً علياً في قلبها، ولك مطلق الحرية أن تهجوها أيضا، لكن السجان سيظل يوقظك!
كنت واهماً حين ظننت أنّ الجامعة مرحلة مختلفة تماماً عن عصا أستاذ المدرسة، وأنّه سيكون من حقي إبداء رأيي كما أشاء، لكن ثقافة "بَل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا" كانت حاضرة أيضا. في السنة الأولى مثلاً كان الدكتور يشرح لنا القاعدة السياسية الشهيرة "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، بمعنى أنّ تجمّع السلطات بيد شخص واحد أو جهة واحدة سيؤدي بالضرورة إلى فساد لا حصر له.
سألت الدكتور: هل لهذه القاعدة استثناء؟
رد: طبعا لا.
قلت: معنى ذلك أنّ ما يجري في أوطاننا سببه هذه القاعدة.
ومن وقتها صار يعاملني معاملة صندوق النقد الدولي للدول المقترضة منه: أي بإذلال وترهيب لا مثيل لهما.
قلت في نفسي: لعل صدور أساتذة السياسة ضيقة، وعليه سأجرب حظي في مادة حرّة أدرسها في قسم اللغة العربية، وعلى هذا الأساس اخترت مادة "لغة عربية تذوق أدبي".
في إحدى المحاضرات كانت الدكتورة تشرح لنا قصيدة المتنبي "واحرّ قلباه"، تلك التي يعاتب فيها سيف الدولة ويمدحه، وحين وصلنا عند البيت الذي يقول فيه عن قصائده : "أنام ملء جفوني عن شواردها/ ويسهر الخلق جراها ويختصم"، وقفت معترضاً أقول للدكتورة : "هذه قمّة النرجسية والغرور".
لم تناقشني وقتها، لكنها قالت لي "بديمقراطية عزّ نظيرها": "يحق للمتنبي أن يغتر بنفسه رغماً عنك وعن عشيرتك "، وانتهى الأمر هنا.
وحين أنهيت مرحلة الدراسة الجامعية ودخلت معترك العمل والكتابة اتضح لي أنّ الأمور لم تتغيّر منذ عهد المتنبي: عليك أن تمدح السلطة إذا أردت أن تحجز مكاناً علياً في قلبها، ولك مطلق الحرية أن تهجوها أيضا، وستنام ملء جفونك عن شوارد ما قلته في حقها، لكن السجان سيظل يوقظك.