أسامة المسلّم ومعرض الكتاب الدولي بالرباط
يبدو بوضوحٍ شديدٍ أنّ الكاتب السعودي، أسامة المسلّم، قد سرقَ نجوميةَ معرض الكتاب الدولي بالرباط. نجاحٌ باهرٌ دون شك، كما لو أنّ المعرض أقيم فقط على شرفه كي نعرفه أخيرًا، وكي يعرفه الذين لا يعرفونه ونبحث عن رواياته الكثيرة التي عددها ست وعشرون رواية!
ومنذ أمس، وأنا لا أرى على "فيسبوك" سوى تعليقاتٍ على حدثِ وصوله إلى الرباط واكتظاظِ البوابةِ بالمعجباتِ والمعجبين به، منتظرين وصوله محاطًا بحرّاسِ الأمن، وتدافعهم عند رؤيته، وسقوطِ بعضهم مغشيًا عليه. ورغم السلبية التي شابتْ أغلب هذه التعليقات والسخرية السوداء من هذا المشهد، إلّا أنّ كلّ هذا لا يعدو أن يكون سوى مزيدٍ من الدعايةِ والإشهارِ والنجاحِ لهذا الاسم الأدبي الجديد القادم من خلفية الأدب الإنكليزي بشماغه، والذي يبدو أن لا أحد من الكتّاب كان يعرفه، عكس كلّ القرّاء الذين جاؤوا لالتقاطِ صورةٍ معه.
بحثتُ أمس عن إحدى رواياته وقرأتُ قليلا. ثم روايةً أخرى، ثم أخرى. وجدت أنّه يصلح بكلِّ وضوحٍ أن يكون سيناريستًا. غزارةٌ ملحوظة في الكتابة، وتمكّن من الحوارات، وذكاء في الالتقاطات. ليس سيئًا بالمرّة، سوى أنّ هذا النوع من الروايات قد تمّ تجاوزه ربّما، منذ سنواتٍ طويلةٍ، لدى محترفي الكتابة والقراءة. وهذا يُذكرني برواياتٍ بوليسيةٍ، ورواياتٍ مُفرطةٍ في الرومانسية. أتذكر في طفولتي أنّ المراهقات والمراهقين كانوا يشترونها من دكانٍ، مقابل خمسين فرنكا. إنّه كاتب جاء متأخرا عن زمنه دون شك، سوى أنّ القرّاء أيضًا قد جاؤوا متأخرين، وبالتالي التقوا جميعًا في الموعدِ المناسب والمكان المناسب، الذي هو معرض الكتاب في الرباط، الذي يبدو بدوره معرضًا متأخرًا، ودائمًا كعادته.
لماذا علينا دائما أن نقف ضد ما هو جديد؟ أليس البقاء للأقوى وليس للأصلح كما يعلمنا الواقع؟ في الأدب أيضا ألا يصح ذلك؟
في كلِّ الأحوال: هنيئاً لهذا الكاتب الصنديد الذي انبثقَ من العدمِ كي يحوّل الكاتب من كاتبٍ فقط بالمعنى التقليدي الكلاسيكي إلى كاتبٍ سوبر ستار، تتهافت على رؤيته الفتيات، ويزاحمهن على ذلك الأولاد، ويُغمى على الجميع عند رؤيته. ست وعشرون رواية هذا عدد مهم للغاية وتراكم يستحق الاحترام والتقدير على المجهود وجديّة العمل على الأقل، حتى وإن بدا للبعض أنّ ما يكتبه تافه أو صبياني أو متجاوز. إنّه ابن عصره، ومنذ اليوم فصاعداً لن يكون هناك مستقبلاً سوى هذا النوع من كتّاب التراند، السوبر ستار. إذ من غير المعقول أن ننتظر إقبالًا كهذا على رواياتٍ ثقيلةِ الدم، تتفلسف كثيراً وتتعالم كثيراً وتصيب القارئ المراهق المبتدئ بالملل والكآبة والنعاس. روايات يكتبها روائيون قُدامى من جيلي، ومن الأجيال القديمة، مليئةً بالبؤس والكوارث والتعقيدات النفسية، وهي روايات عكس روايات أسامة المسلّم، والكتّاب السوبر ستار الذين على شاكلته، علمًا أنّ أسامة ليس مراهقاً، بل فقط يكتب للمراهقين، وينتمي روحياً إلى جيلهم وليس عمرياً، فهو من مواليد 1977، بحيث تُذكرهم رواياته على ما يبدو باهتماماتهم، كالمسلسلات الكورية وأسطوريات الأدب الرومانطيقي المنسوبة إلى دويستويفسكي وتولستوي دون مرجع في "تيك توك" وألعاب الفيديو فئة الجيل الخامس الفانتازية التي يُصارع فيها تنين آلي كائنات فضائية في كوكبٍ بعيدٍ خارج المجرة ويهزمها. إنّ كثرة مآسي هذا العصر، وأزماته، وضغوطه، وكوارثه، ودكتاتورياته، وتفاهته، ونكساته، وانتكاساته، واستهلاكيته، قد أصابت الجيل الجديد باليأسِ والإحباطِ والعزوفِ عن كلِّ ما هو واقعي وحقيقي ومعيش. إنّه تفسير بسيط لفهم إقبالِ المراهقين على هذه العوالم الفنتازية والإدمان عليها مع قطيعةٍ جذريةٍ مع كلّ إنتاجاتِ الأجيال السابقة، التي لم تنتج على رأي نزار قباني سوى: الهزيمة.
أليس الأدب بضاعة أيضا؟ إنّه كذلك، بضاعة ككلِّ بضاعةٍ أخرى، كالصابون والخبز والحشيش، شئنا أم أبينا، خصوصًا اليوم بعد سقوط الأقنعة وانكشاف العالم عاريًا على حقيقته واندحار القيم والأخلاق والمبادئ ورخص قيمةِ الإنسان. ثم: هل الإنسان منذ وجوده، كان أفضل من اليوم، أم أنّه برع دائمًا في الحفاظ على القناع فقط؟
أنظرُ جيّدًا، طويلًا وعميقًا إلى عينيّ الذئبيتين في المرآة لأجيبَ عن هذه الأسئلة، دون أن أنتظر إجابات من أحد آخر. ثم: ما الذي يجعل روايات كثيرة أخرى يكتبها كتّاب وروائيون معروفون ومكرّسون أفضل من روايات أسامة المسلّم؟ فوق أيّ ميزان سنزن كلّ ذلك؟ من سيحدّد لنا اليوم من الأفضل؟ الوزارات أم الحكومات أم المانحون للجوائز العربية أم الناشرون أم كتّاب وكاتبات البلاطات والرعايات السامية أم القرّاء؟ ثم عن أيّ قرّاءٍ نتحدّث؟ هل نعرف القرّاء جميعهم؟ هل هناك معيار محدّد لاعتبارِ شخصٍ قارئًا، واعتبار آخر غير قارئ؟ ما الذي سيستفيده اليوم الجيل الجديد من قراءةِ الفلسفة مثلا؟ ماذا سيستفيدون من قراءةِ الأدب الملتزم القديم والأدب الثوري والفكر اليساري المضاد للرأسمالية والإمبريالية والنيوليبيرالية؟ ماذا سيستفيدون من كلِّ ذلك وهم يرون بوضوح انعدام أيّ التزام أو ثورة أو نضال على أرضِ الواقع؟
لماذا علينا دائمًا أن نقف ضدّ ما هو جديد؟ أليس البقاء للأقوى وليس للأصلح كما يعلّمنا الواقع؟ في الأدب أيضا، ألا يصح ذلك؟ أليس الأدب والفن عمومًا، أكثر ساحات الصراع الطبقي شراسةً وفعلاً في تغيّر الإنسان؟ أليس تغيير الإنسان هو بالضرورة تغيير العالم؟
هل ما كان صالحا لنا هو نفسه ما سيصلح لبناتِ وأبناء الغد؟ ألم يحنْ بعد، لذلك الأب الرمزي الصارم، الفاحص والناقد، أن يستريح ويريح؟ إنّه الأب نفسه الذي دعا أدباء الأمس القريب إلى قتله، وها هم قد تحوّلوا هم أيضًا مع الوقتِ والكهولةِ والشيخوخةِ والخرفِ، بدورهم إلى ذلك الأب نفسه.
إنّ السعودية نفسها التي منحتنا الروائي الراحل، عبد الرحمن منيف، في زمنٍ حيٍّ، هي التي تمنحنا اليوم أسامة المسلّم في زمنٍ ميت. هو زمن ميت بالنسبة إلينا، سوى أنّه ما زال وسيظل حيًّا بالنسبة إلى الأجيالِ القادمة، أجيال لا نعرف أبدًا ما الذي ستفعله بهذا الكوكب.