إحياءُ الماضي أم صناعة المستقبل؟
عزيز أشيبان
تحتضنُ رحلةُ الحياة عددًا لامتناهيًا من الألغازِ والأسئلة التي تتحدّى الحسم والجزم والاختزال وترحّب بتعدّد الإجاباتِ، وتباينِ المقارباتِ في مسارِ بناءٍ مستمرٍ للمعرفة والحكمة، قائم على هدمٍ دائم للتصوّرات والنظريات مقابل ولادة أطروحاتٍ وتأويلاتٍ جديدة، في محاولةِ فهم ما يحدث في الكون من ظواهر وأحداث وتغيّرات.
ظاهريًا، أمام هول ما تزخر به الحياة من تحدّيات وثورات، يبقى الإنسان ضعيفًا، محدود القدرات، غير مؤثّرٍ في حركة الكون. غير أنّه عند استحضار ما أُعطي للكائن البشري من ملكاتٍ ذهنيّةٍ وعقليّةٍ ونفسيّةٍ، يتحوّل الإنسان إلى فاعلٍ رئيسي مدعو إلى إتمام المهام التي خُلِقَ من أجلها.
من البديهي أن يطمح كلّ فردٍ إلى امتلاك زمام توجّهات حياته ورسم ملامحها وفق قناعاته وطموحاته ورؤيته المستقبليّة، لكن هذا الهدف يظلّ عسيرًا صعب المنال، لما تتطلّبه رحلة السعي وراءه من جلدٍ وصمودٍ واستبسالٍ في التعامل مع تحدّيات الحياة وتقلّباتها المفاجئة.
عندما نتحدّث عن تملّك حريّة التوجّه وفق القناعاتِ الشخصيّة، فإنّنا بكلِّ تأكيد نتجه نحو رفع تحدّي حريّة الاختيار العسير على التفكّر، فما بالك في عملية الخوض في تفاصيله على أرض الواقع وتنزيل تصوّراتِ تحقيقه. نميلُ إلى الاعتقاد أنّ ما يحول دون تحقّق هدف امتلاك حق الاختيار هو عملية تحوّله إلى وهمٍ تنساقُ الذات وراءه وتنحرف به عن الدرب الحقيقي في قيادة رحلة الحياة. لذلك يظلّ السؤال العسير، والواجب الخوض فيه دائمًا، وبكلِّ شجاعةٍ، هو: هل الاختيار ذاتي أم مفروض؟ بعبارة أخرى، هل ينبعث الاختيار حقًا من رحم استقلاليّة التصوّرات الشخصيّة والقناعات الذاتية أم هو خلية من خلايا سطوة التصوّرات الجماعية القائمة والمؤثرات الخارجية العصيّة على الحصر؟
من قلب حقيقة الاختيار، تُولد التوجّهات الخاصة بنوعيّةِ الحياة المُراد تحقيقها والنهج الواجب اتباعه، لذلك نحاول الغور في أعماق مقاربتين أساسيتين: محاولة إعادة إحياء الماضي ومحاولة صناعة المستقبل مع القطيعة مع الماضي. نحن بصدد مقاربتين تستقران في الوعي الشخصي والجماعي على حدٍّ سواء، إذ نلحظ حضورها البيّن في التجارب الحياتيّة الشخصيّة، وعلى مستوى شمولي في أنساق الإقلاع والتنمية.
هناك من يسعى إلى إعادة الماضي الساكن، مُعرضًا عن الانفتاح على المستقبل المتحرّك
في ثنايا المقاربة الأولى، ثمّة من يسعى لإعادة الماضي الساكن، مُعرضًا عن الانفتاح على المستقبل المتحرّك، مع وجود فريقين تفصلهما نوعيّة إدراك هذا التبني ومقاصده. بخصوص الفريق الأوّل، هو يتبنى هذا التوجّه بكلِّ وعيٍ وطواعية وقناعة شخصيّة، ويفضّل الانسحاب الطوعي إلى الوراء ويجد بواعث هذا النزوع في الحنين إلى الماضي الذي تراه الذاتُ جميلًا، وتتوقُ إلى عودته رغم ما يكتنفه من عناصر سلبيّة، عدم القدرة على الاستماتة في مواجهة الحاضر، الخوف من المجهول، نداء نرجسيّة الماضي، حيث الكبرياء والأنفة والاعتداد بالنفس، الاحتماء في العيش بفكر الآباء والأجداد مع إغفال حركيّة الكون المستمرّة، وعدم القدرة على الانخراط في الحاضر وعجز الذات عن إبراز حضورها.
على الضفة الأخرى من المقاربة نفسها، يرجو الفريق الثاني إعادة خلق الماضي، لكن دون إدراك حقيقة النزوع نحو هذا التوجّه، إذ ترى الذات نفسها منهمكةً في صناعةِ الدرب المُختلف عن الآخرين، لكنها في حقيقة الأمر تبقى منهمكةً في تكرارِ تجارب الماضي باعتبار ثقل البنيات الذهنيّة والفكريّة والنفسيّة وسلطة اللاوعي التي تُقيّدها من كلِّ جانب. يجدُ أصحاب هذا الخيار صعوبةً في فهم الحاضر وامتلاك الرؤية ويميلون إلى إعادة التصوّرات نفسها والاستسلام لإغراء الأوهام واليقينيّات، خصوصًا في غياب الحسِّ النقدي والتحليلي وعدم القدرة على التمرّد على الوعي الجماعي.
نمر إلى المقاربة الثانية، التي تخصّ أنصار صناعة المستقبل وإجراء القطيعة مع الماضي، ليس بالضرورة تبخيسًا لإرث الأجداد، ولكن أكثر منه توقًا إلى الانخراط في خلق التغيير وامتلاك حريّة الاختيار والقرار والانغماس في تنزيل استقلالية الرؤى الشخصية. بكلِّ تأكيد، تكتنف هذه التجربة عوائق وتحدّيات، تدعو أصحابها إلى تقديم النفيس من جهدٍ ووقتٍ ومرارة الإحساس بالغربة والعزلة طلبًا للتميز والاستقلالية واكتساب فن العيش الذاتي. يتقاسم روّاد هذا التوجّه عناصر عديدة من قبيل البحث الدائم عن التغيير، الشجاعة والإيجابية في التعاطي مع المجهول، الرغبة في التحرّر من النمطية، تجدّد الطموح، الإقبال على مسارٍ من البناء المسترسل: بناء التصوّرات والمفاهيم، بناء الرؤية، بناء القدرة على الاختيار، بناء الذخيرة من ثقةٍ في النفس وعزيمة، بناء التجدّد، بناء القطيعة مع الماضي، وحبّ الإقبال على المعاناة والمكابدة.