ملاعب كرة القدم وتجليات الواقع
عزيز أشيبان
خلال مشاهدتي لإحدى مباريات الدوري الإنكليزي استوقفني الجو العام للمباراة، ولو من وراء شاشة التلفاز، فاسترسلت في طرح عدّة أسئلة تلتمسُ إجراءَ مقارنةٍ عابرة مع ما يحدث في ملاعب كرة القدم عندنا في المنطقة العربية. ربّما لا تجوز المقارنة، لكنّني مع ذلك فضّلت الخوض في بعض عناصرها.
ثمّة تفاصيل تجتذب النظر وتستفز الفكر، تفاصيل معبّرة جدّاً عن العمق وحقيقة الواقع، يكتنفها التناسق والانسجام والتجانس.
في الواقع، نجد في ملاعب إنكلترا، نموذجًا لدول الشمال، التي عانت سابقا، وبحدّة، من ظاهرة الهوليغانز (جماهير تتبنى نهجًا عنيفًا في التشجيع) في ثمانينيات القرن الماضي، حيث تدعو بعض العناصر اليوم إلى التوقّف عندها، ليس انبهارًا بثقافة الغرب أو تلميحًا ضمنيًا إلى الدعوة إلى التغريب، بل حرصًا على قول الحقّ وأخذ العبر والدروس ودعوة الذات إلى التحرّك والتمرّد على واقع التخلّف والتراجع والضعف وعدم فقدان الأمل.
نشرع في رحلتنا هذه بالحديث عن الحضور، حيث نعاين وجوهًا تعتليها الابتسامة وتستمتع بالمباراة لمدّة إجمالية تصل إلى ساعتين، بحثًا عن تجديد الطاقة وتدبير عقلاني لضغوطاتِ الحياة والاستعداد لبداية أسبوع جديد. ربّما يحيل هذا المشهد على قراءةٍ إيجابيّةٍ للحالة النفسيّة والذهنيّة للناس ومدى انفتاح الحكامة القائمة على حساسيّة هذا المعطى المفصلي.
حتى في حالة تلقي الهزيمة وفوز الفريق الزائر لا يتوقف المشجّع عن تشجيع فريقه ورفع معنوياته والتعبير عن الاحترام والامتنان والتفهّم
المحطة الثانية في رحلتنا تهمّ التنظيم الذي نراه تنظيمًا تلقائيًا ينخرطُ فيه الجميع، كلّ من موقعه الخاص وحسب دوره الاعتباري، ممّا يعكس حقيقته كثقافة ونمط عيش ونتاج عقود من التربيّة النظاميّة والممارسة اليوميّة، ويظهر عمق المقاربة الأمنيّة المؤسّسة على الاستثمار في العنصر البشري، ممّا يعبّر جيّدًا عن سلاسة حضور رجال الأمن والتدبير الأمني العقلاني الذي لا يعيق إنجاح الحدث ولا يؤثّر على نفسيّة الحضور ودفء الجو العام. تكفي الإشارة إلى غياب السياج في الملاعب في دلالةٍ صريحة على احترام إنسانيّة الإنسان ومشاركته مسؤوليّة إنجاح الحدث.
في المحطةِ الثالثة، نتوقف عند معطى احترام الخصم وسمو الروح الرياضيّة، إذ حتى في حالة تلقي الهزيمة وفوز الفريق الزائر لا يتوقف المشجّع عن تشجيع فريقه ورفع معنوياته والتعبير عن الاحترام والامتنان والتفهّم، ممّا يعكس نوعيّة الوعي الجماعي وعدم المبالغة في أهميّة كرة القدم واحترام اختصاص الأطر الرياضيّة.
في المقابل، هناك تجلٍّ صارخ لسطو المدِّ الرأسمالي المتوحش على اللعبة، ممّا يفسد جماليتها ويجهز على قيمها الجميلة، لكن الجماهير تبدي بعض المقاومة وتحاول التصدّي لهذا المدّ بالممانعة والتقنين من خلال مؤسّسات الفريق القائمة على الانخراط الفعلي بالعضوية وحقّ الانتخاب وإبداء النقد والرفض رغم سلطة المال الجارفة.
ليس هناك تفهّم أو احترام لتخصّصات رجال الميدان في عالمنا العربي، الكلّ يفهم في اللعبة وينظر حسب أهوائه ويطالب بإقالة الطاقم عند أوّل هزيمة
مثل هذه التجلّيات تعكس بعض الجوانب من واقعِ مجتمع ما بعد الحداثة، حيث ثقافة التنظيم واحترام الحريّات وتقديس الحياة وانكباب الحكامة على خدمة المواطن والانفتاح على همومه وطموحاته. وبكلِّ تأكيد نتحدّث عن هذه القيم النشيطة داخل البلد، أمّا خارج حدوده، فتتعطّل وتضمحل كليًا وتعكس حقيقة النظرة إلى دول الجنوب ونوعيّة الاحترام الذي تستحقه.
عندما نعبر إلى الضفة الأخرى، نصابُ بالدهشة ويتعمّق الشعور بالأسى باعتبار فداحة الفجوات بين العالمين. للأسف حتى كرة القدم لا تسلم من التوظيف السياسي البغيض، ويظلّ المواطن هدفًا لجميع أنواع الاستغلال والافتراس والقصف. في قلب الملاعب نلتقي بوجوهٍ مكفهرة، يستوطنها السخط، كما تُستَغلُ المناسبة، بإدراك أو بدونه، من أجل السبًّ والشتم والقذف والتنمّر، ولا يعذر الفريق بارتكاب الخطأ أو التخلّف عن الريادة. ليس هناك تفهّم أو احترام لتخصّصات رجال الميدان، الكلّ يفهم في اللعبة وينظر حسب أهوائه ويطالب بإقالة الطاقم الفني عند أوّل هزيمة. ولهذا، تتحوّل المباراة إلى مناسبةٍ لتفريغ الغضب والاضطرابات النفسيّة، معبّرة عن واقع البؤس الذي يأتي على الأخضر واليابس. ينضاف إلى ذلك فوضى وعشوائية في التنظيم رغم صرامة الوعاء العام ومحاولة احتواء سلوك الحاضرين، ليظلّ الملعب منتوجًا استهلاكيًّا مستوردًا ومنفصلًا كليًا عن خصوصيّات البلد ونمط عيشه. من المؤكّد وجود الاستثناءات الجميلة التي تصدرها جمالية أرواح بعض الوطنيين لكنها تخفت بسرعة في غيابات الفوضى وفشل الحكامة المستمر.