ابتسامة المتسوّل
يتسوّل كلّ يوم أمام محل "يامبو" التجاري. أرمقه بنصف عين وأنا أتقدّم بدراجتي عكس الريح. يرتدي طاقية مهلهلة، ويحملُ في يدِه لافتة، كُتِب عليها: "المحبة والسلام للجميع". وهذه الجملة تعني بالضبط: "ضعوا داخل الطاسة بعض اليوروهات، أو على الأقل بعض السنتات".
يقف هناك كلَّ يومٍ بدأب، لا يتخلّف عن باب "يامبو" أبداً. مع الوقت، أصبح بالنسبة إليّ جزءاً لا يتجزأ من المحل، بل لمزيد من الدقة أصبح المحل جزءاً لا يتجزأ منه. يبدو سعيداً، ابتسامته عريضة، لا يغيّر الطاقية أبداً. إنها مناسبة جداً للتسوّل أكثر مما هي مناسبة للرأس، كما لو أنّ الشركة أنتجتها خصيصاً للمتسوّلين. وهو يعتمر تلك الطاقية، يبدو بئيساً وصالحاً بالفعل للصدقة. أتخيّله دون تلك الطاقية نشازاً أمام المحل. حتى الشرطة لا تطرده من هناك، ربما فقط، بسبب تلك الطاقية. أيضاً، لا يمكن القول عن شخص يقف ليجمعَ المال ويعدّه دون أخطاء... إنه أهبل. إنه عاقل جداً دون شك.
اليوم بعد أن ابتعدت عن "يامبو"، ظلّت ابتسامة ذلك المتسوّل عالقة في حلق خيالي كشوكة السمك. ما الذي يفعله هناك بالضبط؟ لماذا لا يذهب ليعمل؟ هل يحصّل أموالاً طائلة كمتسوّلي المغرب المحترفين؟ هل الأوربيون كرماء، عوض أن ينفحوه بعض السنتات يتبرعون له بعشرات اليوروهات؟
لا يجب أبداً ازدراء المتسوّلين أو احتقارهم أو شزرهم أو نهرهم، إنهم يؤدّون عملهم كما تؤدي أنتَ عملك، أو كما لا تؤدي أيّ عمل
لا أدري بالضبط. الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أجزم حوله، أنّ التسوّل يوجد في كلّ مكان كالهواء، إنه مهمة وجودية غامضة. المحل فاخر، بينما يأتي المتسوّل ليفسد كلّ شيء. إنه كاللطخة السوداء فوق اللوحة. في الغالب يختار المتسوّلون الأماكن والبنايات الأكثر فخامة: بوابات البنوك، البورصات، ناطحات السحاب التي تحيط بها صرافات آلية بلا نهاية. المتسوّلون يسمعون من بعيد رنين العملات، فيأتون مبتسمين، منتظرين أن تمطر السماء مالاً.
حسناً، ما العيب في ذلك؟ التركي الشاب المتزوّج ببوابة محل "يامبو"، يبذل مجهوداً كبيراً من أجل جمع حفنة من السنتات. أعتقد أنّ العمل قد يكلف مجهوداً أقل من أن تقف عشر ساعات متوالية أمام باب متجر، معتمراً طاقية مهلهلة، ومعطفاً فضفاضاً وتحمل في يدك لافتة تافهة. يرتعد التركي عند البوابة بينما يدخل الزبائن تباعاً كنمل باحثين عن الدفء بين الفواكه والخضراوات واللحوم والتوابل والسمك إلخ... يظلّ واقفاً، سواء أمطرت السماء أو أثلجت. السبت والأحد وفي الأعياد أيضاً، لا يتزحزح من مكانه، بل يقف بشكل مضاعف، كما لو أنّه شخصان، فأيام العطل هي أيام العمل الحقيقي بالنسبة إلى المتسوّلين: "عمل إكسطرا".
يبدو أنني أخذت أغيّر رأيي تجاه المتسوّلين، إنهم يعملون بدوام كامل، يستيقظون باكراً، يغادرون أسرّتهم الدافئة ثم بيوتهم، يختارون بعناية فائقة محلاً ما، بعد دراسة استراتيجية عميقة، ثم يقفون طوال اليوم عند بوابته، أو يجلسون أرضاً معرّضين أنفسهم للروماتيزم. لا يمكنك تخيّل متسوّل يجلس على "الفوتوي" (الكنبة)، واضعاً رجلاً على رجل ومنتظراً الصدقات. عليه أن يجلس بطريقة توحي كما لو أنه داخل مخفر الشرطة الخالي من أيّ أثاث. إضافة إلى ذلك، على المتسوّل الابتسام في وجه الجميع، واستجداء الجميع، وتقبّل سخريتهم، أو امتعاضهم، أو نظراتهم التي ترمقه بدونية. إنه مجهود جبار لا يبذله عامل عادي أو موظف ثانوي أو حارس يقف عند بوابة.
يمكننا تسمية التسوّل بعمل صرف العملات مثلا، أنت تمنح المتسوّل عملة مادية واضحة ويمنحك مقابلها عملة ميتافيزيقية غير مرئية
التسوّل عمل إذن. إنكَ لا تتسوّل، وأنت نائم في غرفتك على سريرك، تشخر وتحلم، بل تخرج لمواجهة العالم بوجه أصلب من الرصاص. أضف إلى ذلك، أنك لا تمنح المتسوّل المال مجاناً، بل مقابل الحسنات، تعطي وتأخذ، تمدّ يدك مليئة بالسنتات وتسحبها مليئة بالحسنات، أو مليئة بكثير من الرضى عن النفس والإحساس بالإنسانية على الأقل. عملة مقابل عملة، بالتالي التسوّل عمل شريف! لا يجب أبداً ازدراء المتسوّلين أو احتقارهم أو شزرهم أو نهرهم، إنهم يؤدّون عملهم كما تؤدي أنتَ عملك، أو كما لا تؤدي أيّ عمل. يمكننا تسمية التسوّل بعمل صرف العملات مثلاً، أنت تمنح المتسوّل عملة مادية واضحة ويمنحك مقابلها عملة ميتافيزيقية غير مرئية. هذا يحتاج من المتسوّل مهارات كثيرة أيضاً، ومواهب مسرحية وفنية استثنائية. تربية قرد مثلاً، أو العزف بشكل جيّد على الغيتار أو على الكمْبْري، أو اختيار شكل ولون الطاقية بدقة قناص، إنها مواهب غير متوافرة للجميع.
عدت بدراجتي إلى مدخل محل "يامبو" التجاري الفخم، أخرجت من جيبي خمسين سنتاً ووضعتها داخل طاسة التركي الشاب المتسوّل، فقال لي:
- شكراً.
- بل شكراً لك أنت. قلت ثمّ سألته: لماذا لا تمرّر الوقت ببيرة في يدك؟ إنها جيدة.
- نعم جيدة، إلا أنها منافية لإتيكيت العمل هنا. ممنوع السكر في أثناء التسوّل.
- حسناً حظاً سعيداً.
قلت له، وأنا أنطلق بدراجتي وأصطدم بباب "يامبو" الزجاجي.