الآباء.. أبطالنا الخارقون
لم أكن أفهم سرّ رباط القدم الذي يلفه أبي حول كاحله منذ وعيت الدنيا حولي، ولم أكن أفهم سرّ تأفّفه المستمر، وتكدّره وتعكّر مزاجه السريع، ولم أكن أعرف شعورًا أسعد من رؤيته يضحك، رغم قسمات وجهه المتعبة، كما لم أكن أعرف إلى أين يذهب طوال هذا الوقت؟ هل يعيش الآباء في كوكب آخر يعودون منه في نهاية كلّ يوم طويل؟
حين كبرت، فهمت وظيفة دعامة الكاحل، هذا الرباط الضاغط الذي يخفّف قليلًا من آلام رِجله، ليس لأنّ أبي أصيب في مباراة لكرة القدم (رغم ولعه بها، وقد كان نجم بلدنا الأوحد في شبابه)، وإنما لأنه كان يقف ثماني ساعات في اليوم، يعمل "كاشيرًا" في مطعم، أو في متجر (سوبرماركت) لسنوات أخرى، وذلك بعد ثماني ساعات يقف فيها كلّ يوم أمام الطلاب، يدرّس لهم اللغة العربية، في حبّ، وصبر، وإعجاز، تاركًا في عقولهم من العلم والتربية ما يصنع منهم رجالًا يصيرون مثله بعد عقدين على الأكثر.
وفهمت أيضًا لماذا يتكدّر أبي لهذه الدرجة ويتعكر مزاجه بهذه السرعة ويكره الصوت المرتفع، خاصة حين ينام (حتى لو كانت الدنيا تقوم وتقعد من حوله)، حين وجدته عائدًا في عزّ حرارة رمضان بتكسي، أقَلَّه من وسط القاهرة بعدما تبضّع لمحل الملابس الذي كنّا نملكه، وهو يحمل فوق ظهره كومةً من البضاعة تجاوز حجمه أربع مرات وأثقل من وزنه بأضعاف، والعرق يتصبّب منه، وهو يلهث من العطش، ويحمل البضاعة مجدّدًا، يتركها في الدكّان، ثم يذهب إلى البيت لينام ساعة، قبل أن يفطر المغرب، ويخرج للبيع مساءً. فكان النوم صديقه العزيز الذي لا يراه إلا أقلّ من جميع أعدائه. ولذا كان ينزعج من كلّ ما يفصله عنه، حتى ولو كان إيقاظ أمي له على الأذان المنتظر.
يحكي أبي عن أيامه تلك، كأنها جنة، بالنسبة لماضيه الذي كان ممتلئًا بالأشواك، حقيقة لا مجازًا، لأنه كان بالفعل يجمع الحشائش من أرض زراعية يعمل فيها، وينقّي الأرض من الأشواك، ولو كانت ستسكن بعد الأرض كفيه المعذبتين، وكم كان يعيش لياليَ لا يجد فيها ما يأكل، وكنت أشكّ بأنّ تلك العادة ما زالت فيه، حين كان يشتري لنا شيئًا ثمينًا، ويختار لنا، أنا وإخوتي، أجود ملبس ومأكل، ثم يخلد إلى النوم. ربما كان بطنه يقرقر؟ كان ضجيجنا فرَحًا بما يجلب لنا، يغلب على أيّ صوت.
ليس الموضوع خاصًّا بي أو بأبي إلى هذا الحدّ، لا أحب شخصنة البطولات، لكن الأمر بالفعل يستحق ذلك وأكثر، بطولات فردية، جماعية، كلّ بطولة متفرّدة لها خصوصيتها، وكلّ بطولة، هي ضمن إطار جماعي تقريبًا، لهذا النوع من القتال النبيل، كأن آباءنا جنود في معركة طاحنة، جيش، يسير كلّ جندي منه في اتجاه، يقاتل على جبهة مختلفة عن صاحبه، ربما يكون الأعداء متشابهين، أو العدو نفسه أحيانًا، لكنها معارك منفصلة، كيف أشرح الأمر؟ انظر إلى المعركة التي خاضها أبوك طوال عمره، ومعركة أبي صديق لك، ربما ستجد أنهما بطلا روايتين مختلفتين.
حين سُجنت، سألني أبي عن طريقة ما يبادلني بها الوضع، فأخرج أنا ويدخل هو مكاني! هذا الجنون تحديداً، هو ما أحاول تسميته بالبحث عن سيف آخر لمواصلة المعركة
وبالتأكيد، ليس كلّ الآباء ملائكة، البعض شياطين، والبعض أبطال من ورق، والبعض فقاعات من صابون، والبعض هم المعارك نفسها، لكنني أتحدث عن أبي الذي أعرفه، وعن الآباء الذين يستحقون هذا النص، على أقلّ تقدير، لأنهم يخوضون معارك، نعلم هنا الكثير، لكن لا أحد يخبرهم بذلك، ولا أحد يسألهم عن الجراح التي عادوا بها وكتموها حرصًا على لقمة العيش، وكان كلّ ما جعلهم يتحملون، هو نحن، وربما لا يقول لهم أحدٌ "شكرًا" إلا مرّة واحدة، حين يصيرون على حافة الاستقالة من الحياة، وهم يبحثون، حتى الرمق الأخير، عن أي سيف آخر لمواصلة المعركة.
أتذكر أبي، حين سُجنت، يسألني عن طريقة ما (كما صوّر له خياله) يبادلني بها الوضع، فأخرج أنا ويدخل هو مكاني، هذا الجنون تحديدًا، هو ما أحاول تسميته بالبحث عن سيف آخر لمواصلة المعركة.
أرى الآباء هنا (الذين أقصدهم كما اتفقنا) يكابدون كلّ نهار، يستيقظون من الصباح، وعيونهم علينا، يطمئنون بملامحنا، يتزودون بدفء أمهاتنا، وأنفاسنا جميعًا بين جدران البيت، يقومون إلى حروبهم المستعرة في الخارج، يقاسون بلا فرصة للسقوط، يقاومون ليقوموا، ثم يعودون بالغنائم في المساء، يلقونها بحبٍّ في سلال أعمارنا، ويمضون هم، ليخلعوا عنهم ثيابهم الدامية، ويتوقفون قليلًا بالنوم عن النزيف، ليعودوا، طوعًا وكرهًا إلى الحرب نفسها في الفجر التالي.
هنا لا أشكر أبي الذي تحُول "الظروف" بيني وبين رؤيته منذ ست سنوات، ولا الآباء الذين يقرأون هذا الآن، أو سيقرأونه أو يصلهم بأيّ طريقة ذات يوم، وإنما أحاول تسليط قدر ضئيل من الضوء على البقعة المظلمة التي لا يصلها النور، رغم أنهم أصلها، لأنّ المشعل الذي يضيء لنا يحرق الجزء المضاء منه أولًا. أحاول أن أقول، بصوتٍ مرتفع قليلًا، التفتوا إلى أبطالكم الخارقين، قدّروهم، قبلوا أياديهم، أعلموهم أنكم تعرفون أنهم يقاتلون، يناضلون، وأنكم تقدّرون كلّ ما يقاسونه من أجلكم، وافعلوا ما ترونه مناسبًا، من مراسم تكريم حقيقية، لا جنازات لا يصل شكرها إلا متأخرًا، حين لا يستطيع الذي على الطرف الآخر أن يقول لك: "العفو".