الأفراح السورية في الغربة

28 ديسمبر 2024
+ الخط -

يعيشُ مازن في ألمانيا، وهو شاب سوري ترك سورية منذ ثلاثة عشر عامًا هربًا من الخدمة الإلزامية التي ستجعل منه قاتلًا أو مقتولًا. تعلّم اللغة الألمانية بسرعة ومهارة، وأنهى عامه الدراسي الجامعي الأخير، ثم بدأ عمله في ألمانيا. هو اليوم يعيش في ظلّ ظروف يمكن وصفها نسبيًا بالجيّدة، على الأقل لأنها آمنة وكريمة. لكنه يعيش وحيدًا وبعيدًا عن بلده وأهله، إذ لم يتمكن من استقدام أهله أو تأمين زيارة له ولهم في بلد مجاور لأسباب اقتصادية أولًا، ولأسباب تتعلّق بتأشيراتِ الدخول الممنوعة على السوريين بقرارٍ دولي، لأنّ السوريين باتوا جميعًا مشاريع لاجئين لا أكثر.

ظروفٌ كثيرة حوّلت لقاء مازن مع أهله إلى حلمٍ مستحيل غير قابل للتحقّق، فأصيب وكذلك أهله بنوباتٍ شديدة من الكآبة، ممزوجة بحرقة في الوجدان جرّاء الغياب الطويل وتعذّر أيّ لقاء.

فجأة سقط نظام الطاغية في دمشق، خبر صاعق رغم انتظاره بحرقة ولهفة. ساعتان تفصل بين التوقيت في سورية والتوقيت في ألمانيا. جاءه الخبر مع أصواتِ الزغاريد، حيّةً وصاخبة في دمشق. ضاقت جدران غرفته عليه. كيف سينزل إلى الشارع والناس ما زالوا نيامًا؟ معظمهم لم يسمع الخبر السعيد حتى الآن. من دون وعي لبس ملابسه، شرب فنجانًا من القهوة ليهدّئ من فورة مشاعره المستعرة بفرح لم يكن يتوقّعه. جسده يرتعش، تَردّدٌ وعباراتٌ مخنوقة منعاه من الاتصال بأصدقائه، وخصوصًا السوريين. شرب قهوته بسرعة ثم ارتدى سترته الشتوية وخرج إلى الشارع. وفور ملامسة الهواء لوجهه انهمر في بكاءٍ طويل، أجهش عاليًا في نشيجٍ مفرحٍ وغزير. اليوم، فقط اليوم، صدّق أنّ الفرح الكبير يحمل معه أنهارًا من الدموع. ما زال غير مصدّق أن طاغية مثل بشار الأسد يمكن أن يزول، أن ينتهي ويرحل بعيدًا عن سورية الوطن الذي تحوّلت زيارته إلى حلم كبير. في كلّ لحظة كان يفتح جواله ليتأكد أنّ الصخور الكبيرة الراسية كجبل على صدور أبناء سورية قابلة لتتزحزح وتشيل معها كلّ القهر والظلم والجور والحرمان من تنفّس هواء الوطن والعيش فيه وبين أهله.

سقوط النظام لا يعني فقط رحيل شخص متجبّر ومتحكّم وغير ديمقراطي، بل يعني أيضًا لم شمل الأُسر المبعثرة عبر العالم

وكأنّ النهار قرّر عدم الظهور. طالت الساعات ومازن وحيد في الشارع، يبحث عن شريكٍ واحد ليشاركه فرحته بسقوط نظام الطاغية. وسقوط النظام لا يعني فقط رحيل شخص متجبّر ومتحكّم وغير ديمقراطي، تورّط في إراقةِ دم شعبه وهدر حياة أبنائه وسرقة موارده، بل إنه يعني لقاءً قريبًا وحتميًا لمازن مع أهله، مثله مثل الملايين الذين حُرموا اللقاء بأهاليهم وعائلاتهم.

وصل مازن إلى المحل السوري في مدينته. تفاجأ بأنه مفتوح مع أنّ اليوم هو الأحد! لكن يبدو أنّ صاحب المحل أصابه ما أصاب مازن تمامًا. فما كان منه إلا أن غادر بيته نحو محلّه ليبدّد وحشة الاحتفال بهذا الخبر العظيم وحيدًا. دخل مازن إلى المحل، قال: "مبروك"، بصوتٍ عالٍ لكنه مضطرب، وطلب شراء بعض الحلويات لتقديمها إلى الأصدقاء وزملاء العمل مباركةً بسقوط النظام المجرم. وعندما منح مازن ثمن الحلويات لصاحب المحل لاحظ أنّ يد الشاب تهتز بشدّة، فما كان منه إلا أن خاطبة قائلًا: "وإنت كمان عم ترجف متلي؟".

عندها غادر صاحب المحل مكانه خلف صندوق المحاسبة وخرج بلهفةٍ عارمةٍ ومضطربة أيضًا، ليعانق مازن بشدّة. بكيا معا بصوتٍ عال ومشاعر منتفضة وأصواتهما تقول: معقول خلصنا؟ معقول راح وانقلع؟

دقّق مازن في ساعته. ما زال الوقت مبكّرًا على موعد استيقاظ أصدقائه. طلب من صاحب المحل، وبرجاء المُحتاج إلى سند: ما بدي ضل لحالي، معليش ضل هون معك؟

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.