الإلحاد بين الأمس واليوم
في عام 1992، دعا الباحث السوري حازم نهار المفكر السوري الراحل محمد شحرور ليقدّم محاضرة تعريفية بكتابه "الكتاب والقرآن.. قراءة معاصرة" في كلية الطب بجامعة دمشق. لكن إقناع المسؤولين عن الجامعة كان عملية معقدة، إذ يصعب تخيّل طرح مثل هذا العنوان في جامعة يحرسها النظام الحاكم. وقتها، لم يكن شحرور وفكره معروفين خارج المؤسسات الفكرية بالقدر ذاته مطلع الألفية. إلا أنّ إلغاء المحاضرة كان مفيدًا أكثر من عقدها حسب تعبير شحرور "إذ بدأ ناسٌ كثيرون يسألون عن الكتاب والمؤلف".
كان هناك ارتباط بين الحياة السياسية والاجتهادات الفكرية، فما هو في صالح النظام السياسي مسموح، وأما غير ذلك (وإن كان يخدم الفكر ذاته بمعزل عن السياسة) فيُمنع من الانتشار.
كان علينا إذن أن ننتظر مطلع الألفية، حيث خبت سطوة السلطة حتى يقدّم محمد شحرور قراءاته المعاصرة للقرآن، في ظلّ اختلاف قائم بين اليساريين والإسلاميين. حينها، قدّم شحرور مجموعة من الندوات، شارك في أغلبها مثقفون وسياسيون قوميون ويساريون معارضون، إلا أنّ الاعتراض جاء هذه المرّة من يساريين وإسلاميين كثيرين، وذلك كلٌ لأسبابه.
ظهر الاعتراض في صورتين، صورة قال فيها اليساريون إنّهم تجاوزوا هذا الفكر! فهم يتحسّسون من كلّ ما له علاقة بالإسلام عمومًا، خشية أن يؤدي فكره إلى تشكّل قناعة عند الناس بأنّ "الإسلام هو الحل". وصورة قال فيها الإسلاميون إنهم أُصيبوا بالحرج من مقولاته، وتخوّفوا من تشويه الإسلام على يديه (على حدّ قولهم)، وهناك من خاف على فقدان مواقعه وحظوته في المجتمع.
يقول الباحث حازم نهار إنّ هاجسه من عقد تلك الندوات كان "البحث عمّا يجذب الناس إلى حوار عام حول شؤون الدين والدنيا في بلد لم يعهد الحوار منذ زمن".
لم يلقَ فكر محمد شحرور قراءة منهجية قابلة للأخذ والرد في سياق الفكر ذاته، بقدر ما قُرِئ بسطحية تتكئ على الاستقطابات و"الرهاب الفكري"، إذ يقرأه شخص ما في سياقه الفكري نكاية بالآخر ويهمل متنه السياسي، ويقرأه آخر مستندًا إلى تصوّرات يتمخض عنها إمّا لعن الكاتب وإمّا التشفي بموته.
وليس ما يشغلنا في هذه المقالة ما له علاقة بفكر محمد شحرور، بل كيف قُرئ محمد شحرور.
أما المسألة الأهم، وهي الصورة الثالثة، فتكمن في التعاطي مع فكر محمد شحرور اليوم، في عصر مواقع التواصل التفاعلية، والمعارك الفكرية الناتجة عادة عن قراءات سريعة ومتسرّعة. والطريف مثلاً، أن يشاهد أحد الشبان "المتشككين" مقطعًا يظهر فيه شحرور متحدثًا (في قراءة شخصية) عن مفهوم "الإلحاد". وقبل أن يكمل الشاب المقطع، يكتب في حسابه الشخصي "أنا ملحد، الأديان صناعة بشرية، الدين أفيون الشعوب"! إلى آخر السلسلة من الجمل المعلبة، فيفاجأ أصدقاؤه متسائلين عن الأمر، ليردّ بثقة الواصل إلى الحقيقة: "أقسم بالله إني ملحد"!.
لم يلقَ فكر محمد شحرور قراءة منهجية قابلة للأخذ والرد في سياق الفكر ذاته، بقدر ما قُرِئ بسطحية تتكئ على الاستقطابات و"الرهاب الفكري"
طبعاً هذا لا ينفي وجود بعض القراءات الواعية، لكنها لا تشكل حالة أو طقسًا يعوّل عليهما، حتى ولو وُجد من يفكر ويقرأ قراءة حصيفة، "متجاوزًا ذاته" في المقام الأول، وارتباكات الفكر الإسلامي في المقام الثاني، فإنك لا تجد من يدفعه إلى الأمام. أو على أقل تقدير يقيّم ما يقدمه بعيدًا عن الذاتية والأطر الواقفة كمصدات أمام الفكر الإسلامي والعربي ككل.
جدير بالذكر أنّ هناك من التزم بالنقد المنهجي وكشف حقيقة منهج شحرور مثل كتب "بيضة الديك"، نقد لغوي لكتاب "الكتاب والقرآن"، ليوسف الصيداوي وهو اختصاصي لغويات، وقد تناول أباطيل شحرور من الناحية اللغوية فقط. وأيضاً، كتاب "الماركسية والقرآن أو الباحثون عن عمامة لدارون وماركس وزوجة النعمان" للمحامي محمد صياح المعراوي.
من جهة أخرى، يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه عن فلسفته في آخر كتاب له "هذا هو الإنسان"، حيث تنبأ بمستقبل فلسفته أيضاً، "أعرف قدري، سيقترن اسمي ذات يوم بذكرى شيء هائل رهيب، بأزمة لم يُعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجّة في الوعي؛ فأنا لست إنسانًا، بل عبوة ديناميت، ولا أتحدث إلى كتلة الجماهير البتّة؛ فأشدّ ما يُخيفني هو أن يُكَرّسني الناس ذات يوم قداسةً. وبإمكان المرء أن يُخمِّن السبب الذي يدفعني إلى نشر هذا الكتاب قبل أن يحدث ذلك الأمر، سيكون عليه أن يحميني من أيّ استعمال شنيع سيئ العواقب؛ فأنا لا أريد أن أكون قدِّيسًا، بل أُفضِّل أن أكون مهرّجًا، ولعلّني أضحوكة بالفعل"، ويتحدث في موضع آخر عن أنّ آخر من سيفهمه هم أبناء جلدته الألمان.
"موت الإله" هي واحدة من أشهر الجمل المعروفة في الفلسفة، وتتردّد كثيراً، لكن غالباً ما يتم إخراجها عن سياقها حسب قول الكاتب والمدون المهتم بشؤون الفكر والفلسفة، هيثم صالحي، إذ يقول إن "موت الإله" لم يكن هجوماً إلحادياً بالمعنى الذي يتم ترويجه اليوم، بل على الأرجح كان هجوماً على العلاقة المحكمة بين المنطق واللاهوت، والذي بدأ مع أفلاطون، وامتدّ للتعاليم المسيحيَّة. وفي كتابه "العلم المرح" ينادي نيتشه بإعادة اكتشاف الذات بالكامل، في سبيل العيش بحق في هذا العالم. نيتشه لم يُعلِ المنطق إلى إله أيضاً، وهذه فكرة تخالف ما يروّج له الإلحاد اليوم.
لكن نيتشه رغم اللغط القائم حول فلسفته يخلص إلى نتيجة مفادها، بأنّ الأديان الموجودة (ويخص بالذكر المسيحية) خفّضت من السوية البشرية، لكن رغم كلّ ما سبق، لا يرفض الأديان كأديان، بل يرفض أن تكون الأديان أغراضًا في ذاتها، "مرعب حينما تسود أديان بعينها لا كوسيلة للتربية في يد الفيلسوف، بل من ذواتها ومستقلة، أي حينما تريد أن تكون الأهداف النهائية، وليس وسائل إلى وسائل أخرى".
أراد نيتشه أن يُعلي من إرادة الإنسان وعدم الاتكال أو الخضوع لما هو خارج عن إرادته، لتكون للإنسان قيم جديدة يؤسّسها هو، وتكون مغايرة تمامًا لمّا اكتسب من قيم مصطنعة
أراد نيتشه أن يُعلي من إرادة الإنسان وعدم الإتكال أو الخضوع لما هو خارج عن إرادته، لتكون للإنسان قيم جديدة يؤسّسها هو، وتكون مغايرة تمامًا لمّا اكتسب من قيم مصطنعة، تحول دون الوصول إلى الرجل المتفوّق، أو الإنسان الأعلى... إلا أنّ فلسفته التي فتحت أمامه آفاقًا وسيعة أهمها القوة والثقة بالنفس وترك الآمال التبشرية ما لم تكن من صنيعه، لم تدم طويلًا، ففي آخر أفكاره "العود الأبدي" تتكشف تناقضاته، إذ كيف لمن ألغى العالم الماورائي والمطلق أن يتمسّك بفكرة أول من ينكرها هي فلسفته؟
وبالعودة إلى كلّ العصور نجد أنّ فكرة إنكار وجود الخالق من الأساس كانت فكرة مستبعدة تماماً، وفي ذلك يقول المؤرخ الإغريقي بلوتارك: "لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد".
في كتابها "تاريخ الخالق الأعظم" تتحدث كارين أرمسترنغ، عن التطوّر العلمي والتكنولوجي الذي شهده الغرب نهاية القرن السابع عشر وبدايات القرن التاسع عشر. وكان هذا عصر تشارلز داروين، وفريدريك نيتشه، وسيغموند فرويد، وكارل ماركس، فبدؤوا بتحليل الظواهر العلمية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية بطريقة لم يكن لفكرة الخالق الأعظم أيّ دور فيها.
أخيرًا، يستحضرني تعبير الكاتب في مجلة الملايين، إد سايمون، إذ يقارن إلحاد الأمس بإلحاد اليوم، "كان الإلحاد في يوم ما موقف بعض المتطرفين الميتافيزيقيين مثل الفيلسوف نيتشه وشوبنهاور، أصبح الآن مادة لمسفسطي الإنترنت"!.