الاستثمار في الخيبة.. هل هذا ممكن؟
عزيز أشيبان
تكتنف رحلة الحياة مجموعة من الأحداث والوقائع التي تتباين بين الإنجازات والإخفاقات، التطوّر والتراجع، التآزر والخذلان، الأمل واليأس، التركيز والشرود. كما تتراكم حسب حركية الشخص ونوعية اهتماماته ومستوى سقف طموحاته، ويبقى المرء غير قادر على التحكّم المطلق في مسارها رغم الاجتهاد والتبصّر والتخطيط، وذلك بفعل حدوث ما هو غير متوقّع وخارج عن إدارة السيطرة، لكنها في المقابل تتحوّل مع الزمن إلى تجارب وحكم وعِبر لصاحبها الذي أدى ثمنها.
نعي جيّدًا أنّ حدوث الخيبات والصدمات والخذلان أمر وارد وطبيعي، لكن تختلف آليات التعامل معها حسب قناعات الشخص وبنياته الذهنية والنفسية. هناك من ينكسر ويسترسل في لوم النفس، هاويًا في غياباتِ جلد الذات وتعميق الاضطرابات النفسية الحادة. نحن بصدد مقاربة سلبية بامتياز لا تقدّم الحلول ولا تنفتح على الذات بإيجابية وحبٍّ وفعالية، إذ يتم فقط الانتقال من السيء إلى الأسوأ بتغييب العقل وتعطيل الحدس وملكات التحليل النقدي والموضوعي والبرهان.
على الضفة الأخرى تستقر المقاربة الأصعب، لكنها الأنجع والأمثل، إذ في كنفها يسمو العقل بمعية التريّث وهدوء النفس وضبط الأعصاب والابتعاد عن ردات الفعل الآنية. هي حقًّا مقاربة صعبة التحقّق لما تقتضيه من قوّة وصلابة الذهن والصبر على الأذى والترفّع. في ملكوتها يجري البحث عن الحلول بعد التحليل الجيّد لما وقع وأسبابه ومحفزاته والاعتراف بالخطأ والاستعداد لتحمّل المسؤولية والالتزام المعنوي. تتخلّل هذه المقاربة عمليات المراجعة والمُساءلة والمحاسبة الشخصية وشجاعة مواجهة الذات وعدم الاطمئنان إلى نداءاتِ الإطراء وتحقيق الإنجازات والتزام التواضع مع الثقة في النفس.
حدوث الخيبات والصدمات والخذلان أمر وارد وطبيعي، لكن تختلف آليات التعامل معها من فرد إلى آخر
يبقى الهدف المفصلي من المقاربة الثانية هو تحويل حرارة نار الخيبات إلى رغبة في تحقيق الانتقام الإيجابي وليس السلبي والتقدّم نحو الأمام. كيف ذلك؟
يجري التركيز على تحقيق إنجاز أو طموح معيّن عن طريق استثمار نار الإحساس بالمرارة أو الخيانة أو خيبة الأمل، وتحويلها إلى قوة دفع تستهدف وتحرّك العزيمة، وتجدّد الرؤية، وتتجه نحو المحاولة والحركة والمبادرة. بذلك يتحقّق تصريف الشحنة السلبية المتولِّدة عن الخيبة والتذمر نحو الخارج وتعويضها بشحناتٍ إيجابية تحفيزية تركز على تحقيق الإنجاز وإرضاء النفس عوض توجيه سموم الشحنة السلبية نحو الداخل والمسّ بسلامه الداخلي. بموازاة ذلك يجري التخلّص من التعب الذهني عن طريق شغل التركيز بمادة مفيدة وتفريغه من الارتكان إلى التفكير اللا مجدي بما حدث وما تولّد عنه من أسى وندم.
هناك من يُسجن فيهزم سجانه من خلال تحقيق طموح ما، من قبيل الحصول على شهادة دراسية معينة، تعلّم لغة أجنبية، اكتساب مهارة جديدة، الاشتغال على الذات بما هو مُتاح من إمكانيات.
يزخر تاريخ البشرية بأمثلة كثيرة لعظماء حوّلوا خيباتهم وهزائمهم إلى انتصارات أبدية تقدّم العديد من الدروس والعبر لجميع الأجيال. كلنا نعلم قصّة محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي نُفي إلى جزيرة لارينيون لمدة 21 سنة من أجل طمس اسمه وقضيته وإطفاء شعلة التحرّر التي أوقدها واستلهمها العديد من الأحرار عبر العالم، غير أنّه استثمر مدّة النفي في العبادة والاعتكاف وتخصيص وقت أكبر للأسرة. الشيء نفسه بالنسبة لغاندي ومانديلا، رغم اختلاف نوعية القضية، لكن باتباع طرق سلمية تتغذّى من الروح الإنسانية الحرّة نفسها.