الاستهلاك المسيّس
إذا كان الشكل المعروف والمتداول لتسييس الاستهلاك هو ما يُعرف بالمقاطعة الاقتصادية، كما فعل المهاتما غاندي وأتباعه في مقاومتهم للاحتلال البريطاني، وامتناع الهنود، يومها، عن استهلاك بضائع محتليهم، أو كما في منظمة "بي دي إس" لمقاطعة كيان الاحتلال الإسرائيلي ومنتجاته كافة، خاصة تلك التي تنتجها المستوطنات... وإذا كان لهذا النوع الفعّال من المقاومة تاريخ في القدرة على التغيير ومحاربة العنصرية والظلم والاستعمار، فإننا في لبنان نعرف نوعاً من تسييس استهلاكي لا يعرفه، ربما، غيرنا.
ففي ظلّ غياب هوية وطنية واضحة ومتفّق عليها بين اللبنانيين، ينقسم هؤلاء دائماً، أو لأقُل ننقسم، وفق تحيّزات دينية من جهة، وسياسية ثقافية من جهة أخرى.
أنصار الغرب عندنا، وهم يُعرفون بجماعة 14 آذار نسبة إلى تظاهرة جرت في العام 2005، ويمثلون جزءاً كبيراً من الرأي العام اللبناني، يعتبرون الصين، مثلاً، نوعاً من عضو خفي (على ضخامته) في تجمّع 8 آذار! أي المناصر للمحور الشرقي، والذي يمثل بدوره جزءاً كبيراً من اللبنانيين.
كيف ذلك؟ لا أعلم. ربما، بسبب الموقف من الأزمة السورية من جهة، وتحالف العملاق الآسيوي مع روسيا من جهة أخرى. وربما، الأهم، على وقع الصراع الأميركي الصيني الذي يدور منذ بضع سنوات واشتدّ أخيراً.
بالطبع لا يعلم الرئيس الصيني شي جين بينغ بذلك. ولو علم؟ للطم، مؤكداً بذلك الانطباع عند هؤلاء. فاللطم دليلٌ قويٌ على ثقافته الشيعية! وبما أن سورية وإيران تنضويان تحت لواء 8 آذار إلى جانب ما يُعرف محلياً "الثنائي الشيعي"، لذا يتحيّز أنصار الغرب، نكاية بأنصار الشرق، لاستهلاك البضائع الغربية التي تنتجها دول يعتبرونها منضوية بشكل "طبيعي" في محور 14 آذار، دون علمها هي الأخرى بالطبع!
في ظلّ غياب هوية وطنية واضحة ومتفّق عليها، ينقسم اللبنانيون دائماً، وفق تحيّزات دينية من جهة، وسياسية ثقافية من جهة أخرى
هكذا، يأنفون من استهلاك البضائع السورية أو التركية أو الصينية، لا بل إنهم يستخدمون وصف "صيني" أو "تايواني" كنوع من شتيمة أو وصف ساخر وتحقيري لافتقار شيء ما إلى الجودة، دون اعتبار للواقع الفعلي لـ"تايوان" المناصر للولايات المتحدة الأميركية في المعركة الحالية مع الصين.
والتسييس الكيدي للاستهلاك، لا يقتصر على جماعة 14 آذار. فجماعة الثامن منه، نسبة إلى تظاهرة هي الأخرى جرت في هذا التاريخ، هم أيضاً يختارون الاستهلاك بناء على ميولهم السياسية/ الطائفية/ الثقافية. فالانطباع العام يوحي بأنّ الشيعة مثلاً، يُقبلون على المصنوعات السورية والإيرانية، وجماعة السنة ينتصرون للبضائع التركية، لا بل إنّ السياحة في تركيا والحنين إلى الإمبراطورية العثمانية بدا واضحاً في السنوات الأخيرة في بعض مناطق شمال لبنان، التي يسكنها مواطنون من أصل تركي.
أما الموارنة، فالانطباع السائد أنهم عادة من المتماهين مع ثقافة الغرب، خاصة فرنسا. لدرجة أنّ بعضهم شارك بفعالية في عريضة تطالب الرئيس إيمانويل ماكرون، يوم زيارته بلدنا إثر انفجار المرفأ، بعودة الانتداب الفرنسي! لذا، هم يتحيّزون لثقافة وبضائع هذا الغرب، ولو كان مجرّد صربيا!
لا بل إن الكثيرين منهم، وفي بداية انتشار فيروس كوفيد 19، امتنعوا عن تناول اللقاح الصيني وخاطروا بصحتهم بانتظار اللقاح الأميركي أو البريطاني!
كان تسييس اللقاحات لا يصدق. هكذا تحيّز بعض "الروم الأرثوذكس" للقاح الروسي، ولم يقبل بعض السنّة اللقاح الصيني إلا عندما علموا بأن دولة الإمارات اختارته واستوردته لجيشها! أما الكارهين للشرق، ولو كان روسيا، فأعرف منهم من قضى أياماً صعبة بانتظار لقاح "جونسون" الذي تبيّن بعد فترة أنه غير صالح وسُحِب من الأسواق.
من نحن؟ من هم أصدقاؤنا؟ من هم أعداؤنا؟ أي لبنان نريد؟
إلى هذا الحد نعم. فإن كانت الحرب الاقتصادية التي تشنها أميركا على الصين، على خلفية الصراع على تقنيات المستقبل التي ينتجها البلدان، بدءاً من احتجاز المديرة التنفيذية لشركة هوواوي للاتصالات، ثمّ الحرب الإعلامية على الصين على خلفية انتشار فيروس كورونا، فوصولاً إلى محاربة تطبيق "تيك توك"، تُعتبر دفاعاً عن مصالحها، إلا أنّ هذه الحرب الاقتصادية عندما تصل إلى أراضينا تُصبح نوعاً من قلّة العقل، لسبب بسيط، وهو أننا غير مؤثرين كمستهلكين لقلّة عددنا إلا على المستوردين المحليين.
لذا نحن في هذا الصراع الدائر بين القوتين العظميين أشبه بجمهور كرة القدم: ندفع ثمن مقاعدنا، وتبح حناجرنا، ونضرب بعضنا، دفاعاً عن هذا الفريق أو ذاك، في حين يتقاضى اللاعبون في الفريقين أجوراً خيالية وانتصارات تدخلهم التاريخ.
رفع سياسيو لبنان لفترة طويلة صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، وهو شعار ذو مغزى كونه ولد عشية أحداث العام 1952، بين أنصار الانتماء الغربي من جهة، وأنصار عروبة لبنان من جهة أخرى، كشعار يضمن استمرار كيانه المتصادمة عناصره بشكل متكرّر على خلفية سؤال الهوية: من نحن؟ من هم أصدقاؤنا؟ من هم أعداؤنا؟ أي لبنان نريد؟
كان اللبنانيون، أكاد أقول دائماً، يختارون إجابات وفقاً لمثال يتطلعون إلى تقليده، لكن خارج حدودهم: منهم من اختار فرنسا هوية، ومنهم من اختار السعودية أو مصر، ومنهم من اختار أميركا، ومنهم من اختار إيران. ومنهم من اختار شعباً لم يعد موجوداً هو الفينيقيين!
هكذا، نبدو كلبنانيين مستغرقين في نوع من "شوبينغ" هُوياتي، نتماهى مع ثقافات بلاد أخرى أو مندثرة، وفي أعماقنا تصوّر مهزوز عن هويتنا وثقافتنا، والأهم دون إعطاء الأولوية لمصالحنا المشتركة كلبنانيين.
لذا، تبدو صيغة "لا غالب ولا مغلوب" بمثابة الوصفة المثالية لاستمرار الوضع على ما هو عليه. وبما أنّ التاريخ لا يعرف الوقوف في مكان ثابت، فإنّ هروبنا كلبنانيين إلى الأمام، عبر انتحال هويات الآخرين والتحيّز لها، لن يمنع تراجعنا أكثر فأكثر إلى الوراء، إن كان لا يزال هناك مجال للمزيد من التراجع.