البحث عن قبر النديم (1/3)
أما آن لأبي الأحرار أن يعود من منفاه ويعانق جثمانه تراب وطنه؟ أما آن لملهم الثورات العربية أن تستريح روحه الهائمة بعيدا عن الأرض التي أحبها وناضل من أجلها؟ أما آن لعبد الله النديم أن يعود إلى مصر من منفاه الطويل؟
كانت المهمة شبه مستحيلة، مهمة أن تبحث عن قبر عبد الله النديم في مدينة كإسطنبول يتجاوز عدد مقابرها التاريخية الرسمية مائتي مقبرة؟ لكن عليَّ أن أسعى وليس عليَّ أن أدرك النجاح، فهذا هو الوقت المناسب لهذه المهمة.
كنت قد وقعت في غرام تركيا منذ زرتها لأول مرة عام 2005، وكنت كلما زرتها وضعت مهمة زيارة قبر عبد الله النديم على قائمة أولوياتي، فقد كنت أتصور أن له مدفناً معروفاً هناك، بل وربما كان له مزار أيضاً كغيره من الكتاب الكبار العرب والأجانب الذين كانت إسطنبول منفى اختياريا أو إجباريا لهم، وما أكثرهم. لم أكن أظن أن السلطان عبد الحميد الثاني كان سيضنّ على عبد الله النديم بضريح خاص يكرم جثمانه بدفنه فيه، فما تقوله كافة المراجع أن النديم عندما توفي مريضا بالسل أو مريضا بغربته عن مصر في ليلة الأحد العاشر من أكتوبر سنة 1896، أمر السلطان عبد الحميد بأن تجرى له جنازة رسمية على نفقة السلطان، لتكتمل مفارقات حياته المضحكة المبكية بأن تسير أمام نعش الصعلوك الثائر بطل الغلابة وعدو السلطة وطريد العسس والمخبرين، فرقتان من الجيش وفرقة من الشرطة وطلبة المكتب السلطاني وكبارات إسطنبول الذين لم يسلموا من لسانه وقلمه لكنهم جاؤوا لتشييعه تملقا للسلطان ليسيروا جنبا إلى جنب مع أستاذه وصديقه الثائر العظيم جمال الدين الأفغاني، وكنت أتصور أنني لو سألت أي متخصص في التاريخ عن موضع قبره فسأستطيع الاهتداء إليه بسهولة، وفي كل زيارة كنت أفشل في ذلك وأجد أن كل من أردد له اسمه يسمعه للمرة الأولى.
لم أكن لفترة طويلة من عشاق إسطنبول، كنت لا أزورها إلا لمامًا مع أني كنت أزور تركيا كل عام. لم أكن قد اهتديت بعد إلى مدخل حبها، فللمدن مداخل إذا لم تهتد إليها ظللت غريبا عنها، ولم أكن أتصور أن عبد الله النديم سيكون مدخلي للوقوع في غرام إسطنبول التي كانت دائماً المكان الذي أعبر عليه إلى أماكن أخرى أحبها في تركيا، لكنني هذه المرة قررت أن أستقر بها فترة أطول مما تعودت عليه لكي أبحث عن قبر النديم، لأنني شعرت أن الوقت قد حان لكي يعود من منفاه بعد أن شهدت مصر أخيرا ثورتها الشعبية العظيمة التي دعا إليها النديم وغيره من الآباء العظام.
عدت إلى ما توفر لديَّ من مراجع عن حياته لكي أتتبع أيامه الأخيرة في إسطنبول، لعلي أجد خيطا يوصلني إلى مكان مقبرته. صدمتني فقرات قرأتها في واحد من أقدم وأهم الكتب التي كتبت عن النديم وهو كتاب (عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية) للأستاذ نجيب توفيق الذي قال فيه: «ومما يؤسف له أنه لم يعرف قبره إلى اليوم ولم يفكر أحد في الذهاب إلى تركيا للتنقيب عن قبره لتحديد مكانه وإقامة شاهد عليه، ولو كان تم ذلك، لكان من السهل في العهد الحاضر بعد ثورة الجيش العظيمة أن ينقل جثمانه إلى وطنه ويكرم ذكره ويحاط بكل مظاهر الإجلال والاعتبار التي تليق بتاريخ جهاده المجيد».
بالرغم من مرور السنين لم تنس الأجيال الجديدة فضل النديم وعطاءه وكفاحه، سأكتفي بالتدليل على ذلك بمثال مشرف للغاية، هو "جروب" على الفيس بوك أنشأه مجموعة من الشباب يطالبون بإعادة رفات النديم إلى مصر
عندما تعرف أن ذلك الكتاب صدر في عام 1954 وتدرك أن عبد الله النديم لا زال بعد كل هذه السنين من "ثورة الجيش" منفياً في إسطنبول، ستعرف كم هي منكوبة بلادنا التي رزقها الله بحكام يطلقون أسماء أصدقائهم من الضباط على أكبر شوارعها دون أن يكون لهم عشر معشار ما قام به النديم من نضال دفع ثمنه غاليا، ومع ذلك فقد استكثرت عليه بلاده أن يدفن في ترابها ويكون له فيها متحف يروي قصة كفاحه للأجيال التي دجّنوها وخدعوها فأصبح حتى بعض نشطائها السياسيين يعتقد أن شعبه شعب خانع لم يثر ضد الظلم ولم ينتفض ضد القهر.
لكن إذا كانت "ثورة الجيش" قد تجاهلت عبد الله النديم ثائر الشعب، واكتفت بعمل تمثال له في حديقة الخالدين بالإسكندرية مسقط رأسه ومرتع شبابه، فقد وجب على ثورة الشعب وهي تكرم أبطالها أن تعيد الاعتبار لكل آباء الثورة الشعبية من مثقفين وعمال وفلاحين وطلبة وما أكثرهم وما أجمل قصصهم الملهمة في تاريخنا المجيد، ولا ينبغي أن يسبق اسم في قائمة المكرمين اسم عبد الله النديم ذلك الثائر الذي تصلح قصته في حد ذاتها لكي تكون أكبر تكريم للشعب المصري وأبلغ رد على كل ما تلصق به من اتهامات من بعض مثقفيه المحبطين، هذا الشعب الذي عشق النديم فخبّأه في أحضان حواريه وزواريق قراه تسع سنين كاملة برغم أن السلطات كانت قد رصدت بإيعاز من الاحتلال الإنجليزي مكافأة ضخمة قدرها ألف جنيه لمن يرشد عنه، وكان ذلك المبلغ وقتها كافيا لتغيير مصير حي بأكمله، لكن فقراء المصريين كانوا يعرفون قيمة بطلهم النديم الذي كان خطيبهم وكاتبهم وشاعرهم وممثلهم ومضحكهم ومبكتهم فشالوه في أعينهم بعيدا عن أعين العسس إلى أن سقط في النهاية على يد شرطي حقود.
وبالرغم من مرور السنين لم تنس الأجيال الجديدة فضل النديم وعطاءه وكفاحه، سأكتفي بالتدليل على ذلك بمثال مشرف للغاية، هو "جروب" على الفيس بوك أنشأه مجموعة من الشباب يطالبون بإعادة رفات النديم إلى مصر يحمل عنوان (بصوتك عبد الله النديم يعود للوطن)، وقد وضعوا لـ "الجروب" شعاراً يقول: (لماذا تطالب الحكومة المصرية بعودة الآثار المسروقة ولا تطالب بعودة رفات عبد الله النديم؟). لا تحزن إذا عرفت أن أعضاء الجروب يبلغ عددهم فقط ألفاً و530 عضوا، وهو عدد مخجل إذا قارنته بـ "جروبات" السماجة والتلزيق المنتشرة في جنبات الفيس بوك، فمن قال إن ذلك معناه أن النديم سيعدم آلافاً من عارفي قيمته وفضله سيضمون صوتهم إلى أصوات المطالبين بعودة رفاته إلى مصر، اللوم كل اللوم على الإعلام الذي يجري وراء أتفه الجروبات ليسلط عليها الضوء.
هاه، ما علينا، لجأت إلى التواصل مع أحد مؤسسي الجروب المؤرخ المتميز الدكتور عمرو منير لكي أخبره بما انتويت عليه من بحث عن قبر النديم فأعطاني طرف خيط كنت أحتاج إليه بشدة، لتبدأ رحلتي في البحث عن قبر عبد الله النديم، تلك الرحلة التي تحتاج إلى نَفَسك معنا أيا كان موقعك وبقدر ما تستطيع، لكي تكتمل بعودة عبد الله النديم إلى مصر.
كان فألا طيبا بالنسبة إليَّ، حين فتحت شباك غرفتي في الفندق فوجدت مقبرة تواجهه، إذا كنت ممن تقبضهم رؤية المقابر أو سيرتها فأنت لم تر المقبرة التي أتحدث عنها، ينقصها "بيسين" لكي تكون فندقاً من فرط نظافتها ورقيها، ولو كانت موجودة لدينا لظهرت إعلانات تأجير مساكن بها في صفحات العقارات التي تنشرها الصحف. زال عجبي منها عندما عرفت أن اسمها مقبرة الوالدة باشا، وأن السلطان عبد الحميد الثاني أنشأها لتكون مدفنا لوالدته، لكن المدفن ضمّ كثيرا من أعيان ووجهاء إسطنبول وعلمائها في فترة حكمه وما أعقبها.
...
نكمل غدا بإذن الله