البحث عن قبر النديم (2/3)
كنت قد اخترت في تلك الزيارة فندقاً في قلب إسطنبول ليسهل تنقلي بين مواقعها الأثرية، فكرت أن أذهب إلى قصر توب كابي سراي أو إلى دار المطبوعات العمومية لأبحث في أرشيفيهما عن أي بيانات تخص عبد الله النديم، فقد عمل النديم عند مجيئه إلى إسطنبول مفتشا للمطبوعات بالباب العالي.
حاول النديم في البداية أن يكون مواطنا صالحا صامتا، لكنه لم يتحمل أيامه الكئيبة الأولى التي فقد فيها قدرته على المشاغبة، وسرعان ما عاد إلى حياة التمرد والاتصال بالمثقفين المتمردين الذين كان تقريبا ينفق مرتبه البالغ 45 جنيها مجيدياً عليهم. شخص كهذا لابد أن يكون له ذكر في أي وثائق تؤرخ للمرحلة، المشكلة أن ظرفا ألمَّ بصديقي التركي الذي يجيد اللغة العربية فمنعني ذلك من تلك المحاولة، كان من العبث أن أحاول لوحدي، فالأتراك قوم لا يجيدون غير لغتهم، ولا يحبون أن يجيدوا غير لغتهم، فقد أغنتهم بلادهم عن كل ما سواها، ولا يجدون في ذلك غضاضة، وليسوا مشغولين بالغضاضة التي تجدها أنت في ذلك.
عندما ذهبت لكي أدخل المقبرة المواجهة للفندق وجدتها مغلقة، لأن المقابر الأثرية التي توضع على خريطة السياحة كمزارات تأخذ إجازة كل اثنين، في تقليد متوارث من أيام الخلافة العثمانية كما فهمت، قررت أن أستغل الوقت بتحديد موقع مقبرة النديم التي كان قد قال لي الدكتور عمرو منير إن المعلومات تقول إنها موجودة إلى جوار مدفن البطل الشهير خير الدين بارباروس في حي باشكتاش.
فرحت بالمعلومة لأنها مختلفة عما قرأته من قبل عن دفن النديم في مقبرة مجهولة، أيا كان اتساع مدفن خير الدين فلا شك أنني سأجد اسم النديم على شواهد القبور المحيطة به، كنت قد قرأت في بعض الكتب أنه لا يوجد على شاهد قبر النديم سوى بيت شعر حزين يقول: «بالأمس عاش غريبا في ديارهمو.. واليوم مات غريب اللحد والكفن»، لكن مراجع أخرى تقول إن هذا ليس صحيحا، وإن البيت من قصيدة قيلت في رثاء النديم.
أنا أميل إلى هذا التصور، فالمؤكد أن والدة النديم وأخاه عندما علما بمرضه بالسل سافرا إليه لكي يسانداه في مرضه الذي خاض عناءه وحيدا غريبا، لكنهما وصلا بعد أن تم قضاء الله واختطفه الموت، ووجدا متاعه وأثاثه وقد نهبا، ولا أتصور أنهما لم يهتما بمعرفة مكان قبره وتحديده، خاصة أنه دفن كما قلنا في جنازة سلطانية رسمية.
مما شاهدته من خلف أسوار المقابر التي مررت عليها، لا يوجد قبر إلا وقد كتب عليه اسم المدفون فيه وتاريخا ميلاده ووفاته وبعض الدعوات له بالخط التركي القديم، بل وبعض الأشعار بالعربية والتركية أيضا، لذلك لن يكون الاهتداء إلى قبر النديم من خلال اسمه مستحيلا، المهم الآن أن أحدد قبر خير الدين في حي باشكتاش مترامي الأطراف.
لفت انتباهي عند قراءة كتاب أحمد أمين أنه تحدث عن حرصه على زيارة قبر السيد جمال الدين الأفغاني في إسطنبول، لكنه لم يتحدث عن محاولته زيارة قبر النديم
لم تكن المهمة سهلة، وقد ربح فيها سائقو التاكسيات الخير الكثير، أغلبهم بالحلال وأحدهم بالحرام، كنت قد وجدت على خرائط الإنترنت أن هناك جامعا اسمه (جامع بارباروس) افترضت أنه يحتوي مدفن بارباروس نفسه كعادة الأتراك، لكنني لم أصل إليه برغم عناء البحث، واستعنت بصديق تركي قال لي بعد سؤال عدد من المرشدين السياحيين إنه لا يوجد جامع بهذا الاسم، وإن من وضع المعلومة على الإنترنت مخطئ، لأن خير الدين مدفون في مقبرة ملاصقة لجامع سنان الشهير الذي يتوسط أحد أهم ميادين باشكتاش.
ذهبت في اليوم التالي إلى الجامع وفتشت في المقبرة الملاصقة له فلم أجد أثرا للنديم، حتى موقع قبر خير الدين وقعت فيه ضحية تناقض بين الموجودين الذين بدأت إجاباتهم الغامضة تشككني أصلا في كون خير الدين مدفونا في هذه المقبرة أصلا.
قابلت شيخاً طاعن السن مشرق الوجه يبيع السبح والطواقي والكتب الدينية إلى جوار المسجد، كلما سألته عن شيء أجابني بدعاء بلغة عربية تخرج من فمه الأعجمي كالشهد المصفى، أقول له وأنا أستجمع كل ما أعرفه من مفردات تركية هي في حقيقة الأمر عربية: "عبد الله النديم؟ ميصير.. كاتب.. كهرمان.. سلطان عبد الحميد.. مرحوم"، فيجيبني ضاحكا: "اللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا". أسأله: "طيب قبر خير الدين كهرمان برباروس"، فيجيبني قائلاً بنفس الضحكة: "اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه".
كان لابد أن أكتفي في السؤال القادم بكلمة: آمين، وأقبل رأسه وأغادر لكي أبحث عن مدافن يحيى أفندي التي تقع في نفس الحي، والتي قال الأستاذ الكبير أحمد أمين في كتابه (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) إن النديم دفن في مقبرة فيها، كثير من المراجع تقول إن قبر النديم بداخل مدافن يحيى أفندي مجهول المكان، بينما يؤكد الدكتور عمرو منير أن ما لديه من معلومات تؤكد أن قبره معلوم المكان، وأن هذا ما يؤكده أحد أفراد أسرة النديم الذي تواصل مع جروب "بصوتك يعود النديم للوطن".
لفت انتباهي عند قراءة كتاب أحمد أمين أنه تحدث عن حرصه على زيارة قبر السيد جمال الدين الأفغاني في إسطنبول، لكنه لم يتحدث عن محاولته زيارة قبر النديم، دون أن يقول لنا إذا كان ذلك لأنه لا يعرف مكان قبره بالتحديد، أم إن وقته لم يتسع لذلك. لكنني على أي حال قررت أن أذهب إلى مدافن يحيى أفندي وأبحث عن قبر عبد الله النديم لعلني أجده، وعسى.
مدافن يحيى أفندي واحدة من أشهر مدافن إسطنبول التي تدفن فيها عائلات المدينة موتاها، يزاحمها في المنزلة والشهرة مدافن السلطان أيوب، وهو الاسم الذي يطلقه الأتراك على سيدنا أبي أيوب الأنصاري رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم في أول سكناه في المدينة المنورة، وقد اختار الأتراك لها مكانا ساحرا في تل عال مطل على القرن الذهبي الشهير الذي يمتد من مضيق البوسفور، لو كان لك ميت هناك فستحب أن تزوره كثيرا لكي تستمتع بسحر المكان الذي يدفع فيه السواح الشيء الفلاني لكي يجلسوا على مقاهيه التي تجاور مزار الكاتب العالمي بيير لوتي، الذي استوطن إسطنبول ودفن في التلة المطلة على المقابر، ولم يكن حظ النديم كحظه من الاهتمام والتكريم والحفاوة، ولذلك صعدت لأبحث عن قبره الذي أتمنى ألا يكون مجهولا في تلك التلة العالية المطلة على الطرف الآخر من مضيق البوسفور، والتي تحوي مئات الآلاف من الراقدين تحت التراب إلى جوار أحد أولياء الله الصالحين المعروف باسم يحيى أفندي، فهل يكون النديم فعلا واحدا منهم؟
...
نختم غداً بإذن الله.